اللاجئون السوريون في الدراما، هل أنصفتهم الحكايات؟

بقلم: جوان ملا

لطالما كانت الدراما السورية الأكثر قرباً من الواقع، فقد طرحت على مدار سنوات قضايا هامة تلامس المجتمع السوري والعربي أيضاً، ويكاد لا يوجد موضوع جدلي إلا وطَرَحته المسلسلات السورية بطريقة شفافة حيادية بالغالب، وهذا ما جعلها تدخل قلوب الكثير من المتابعين العرب، لكن مع بدء الحرب في سوريا واستمرار تبعاتها حتى الوقت الحالي وعمليات اللجوء والنزوح للسوريين داخل وخارج أراضي وطنهم، بات هناك قضايا جديدة ملحة وخطيرة لا بد من الحديث عنها في الأعمال الدرامية سواء في السينما أو التلفزيون، لكن هل استطاعت هذه الأعمال توصيف حالة اللاجئين والنازحين بطريقة موضوعية جيدة بعيداً عن التجاذبات السياسية أو المؤدلجة؟

حكايات درامية عن اللاجئين

بعد عمليات النزوح والتهجير في سوريا من عدة مناطق وتنقل السوريين داخل أو خارج البلاد شحذَ الكتّاب أقلامهم لتقديم وجبات درامية دسمة تتحدث عن هذا الموضوع إما بخط درامي من مجمل خطوط العمل، أو ليكون موضوع اللاجئين محور المسلسل كله، وربما كان مسلسل “بانتظار الياسمين” من تأليف أسامة كوكش وإخراج سمير حسين من أوائل الأعمال التي طرحت قضية النازحين السوريين الذين هُجّروا بالحرب وسكنوا الحدائق بعد انقطاع السبل بهم كمحور أساسي للعمل، ليتناول المسلسل مجموعة شرائح من السوريين الذين غادروا منازلهم مضطرين، وما آلت إليه أحوالهم بعد ذلك، مع التعرض على الهامش لبعض القضايا السياسية، وقد صور العمل معاناة السوريين بعد هذه الهجرة وانقلاب معيشتهم إلى جحيم نتيجة هذه الحرب وينتهي العمل بموت شابين منهما في القصف ليرحل مهجرو الحرب نحو اللا مكان على وقع البكاء وأغنية “يا طير سلملي ع سوريا”.


كما عرض مسلسل “تحت سماء الوطن” تأليف مجموعة كتاب وإخراج نجدة أنزور في بعض من ثلاثياته مثل ثلاثيات “لطيفة” و “عزيزة على بابا عمرو” و “نزوح” قصص النازحين الذين يعانون من التهجير من بيوتهم بعدة مناطق لا سيما حمص ودمشق وحلب، مع التركيز على الحركات الإسلامية التي شاركت في القتال ضد الحكومة السورية، ومع تطور الأحداث فيما بعد، حاولت بعض المسلسلات الهروب من سلطة الرقابة داخل سوريا لتطرح مواضيع أكثر جرأة عبر تصوير أعمال تقدم وجهات نظر سياسية أخرى قد لا يُسمَح بطرحها داخل سوريا بهذا الشكل المباشر، فقُدِّمَ مسلسلان مهمان جداً في تاريخ الدراما السورية وهما “قلم حمرة” و “غداً نلتقي”، وإن كان قلم حمرة لم يتطرق لموضوع اللاجئين إلا أنه لمّح لتفاصيل سياسية عما يجري في سوريا طارحاً جميع رؤى الأقطاب المتنازعة في البلاد.

لكن يمكن وصف مسلسل “غداً نلتقي” تأليف إياد أبو الشامات وإخراج رامي حنا بالمسلسل النموذجي لحكايا اللاجئين، فقد تناول العمل قضايا مجموعة لاجئين سوريين يعيشون في مدرسة لبنانية، ولم تخلُ القصة من إسقاطات سياسية رائعة تطرح شرائح المجتمع السوري بكل أفكاره في الحرب من خلال هؤلاء الأشخاص، فبين المتأسلم المتشدد، ومن يسعى للخيانة، والمؤيد والمعارض والفلسطيني السوري الذي تهجر مرتين تدور كل هذه الشخوص في فلك “وردة” التي لعبتها كاريس بشار والتي كانت ترمز بشخصيتها تلك لسوريا، والتي تهاجر فيما بعد بقوارب اللجوء نحو فرنسا بحثاً عن وطن جديد تسكنه.


وفي ثلاثية “موطني” من مسلسل “مدرسة الحب” طرحت الثلاثية قضايا اللاجئين السوريين الهاربين عبر البحر نحو أوروبا والمعاناة التي عانوها في رحلة الوصول لوطن جديد، فتحدث عن مجموعة سوريين يهاجرون بالبحر لكنهم يصلون في النهاية جثثاً لبلاد الاغتراب بعد موتهم في شاحنة ثلاجة هربوا بها عبر الحدود، كذلك الموت كان من نصيب ابنة هدى التي لعبتها الفنانة شكران مرتجى في مسلسل “مذكرات عشيقة سابقة” أثناء رحلة اللجوء في الغابات نحو أوروبا وذلك بسبب مرضها وعدم تحملها لمشقة المشي سيراً على الأقدام.


وفي الموسم الرمضاني عام 2023 تناول مسلسل “النار بالنار” وربما لأول مرة موضوع العنصرية الذي يتعرض له اللاجئون السوريون داخل لبنان، وذلك عبر حي شعبي يعيش فيه مجموعة لبنانيين وسوريين يتناحرون فيما بينهم على الأفضلية “أفضلية اللبناني على السوري ثقافياً واجتماعياً والعكس بالعكس” لكن في الحقيقية فإن الشعبين مسحوقان ويعانون من ظروف اقتصادية صعبة لا يستطيعون تجاوزها بسهولة.
ويُحسَب للنار بالنار “تأليف رامي كوسا وإخراج محمد عبد العزيز” أنه قدم صورة مغايرة للنزوح السوري في لبنان من خلال ما يتعرض له اللاجئون السوريون في هذا البلد الجار الصغير من “تسميع حكي” ومطالبات ليست بالقليلة بالترحيل من البلاد بحجة أن السوريين “خربوها” واستوطنوا فيها آكلين حق أهل البلاد الأصليين، وينوّه العمل من خلال شخصية عزيز التي لعبها جورج خباز على قضية الوصاية السورية السابقة على لبنان أيام الحرب الأهلية لينبُشَ في التاريخ بقضايا كانت قد أُغلِقَت ولو بشكل موارب وهو الأمر الذي اعتبره البعض تأجيجاً لصراع سوري لبناني محتمل خصوصاً أن الوضع في لبنان مع تدهور البلاد “لا يحتمل هذه الطروحات نتيجة الاحتقان الشعبي الحاصل”.


لكن يبقى السؤال هل حلت هذه القصص الدرامية مشكلات اللاجئين؟ أم أنها ليست مطالبة بذلك؟ وهل كانت حقيقية بطرحها أم مبالِغة؟ وهل يستفيد منها اللاجئون السوريون فعلاً؟

بين الدراما والواقع ما رأي اللاجئين السوريين؟

في لبنان يقيم مجموعة كبيرة من السوريين سواء قبل الحرب أو بعدها، لكن طبعاً فإن النزوح له ك كبيراً بعد حصول الأزمة التي طال أمدها في سوريا، فكيف يجدُ بعض اللاجئين هذه الحكايات الدرامية؟ هل تخدم قضيتهم أم تزيد الطين بلة؟
تقول “أم محمد” “57 عاماً” إنها تستمتع بمشاهدة هذه الأعمال ولا تعلم حقيقةً إن كانت تفيدها كلاجئة سورية في لبنان، لكن برأيها إنه من الضروري أن تُطرَح هكذا مواضيع لأن المسلسلات تصل لقلوب الناس أكثر من نشرات الأخبار والتقارير “الناشفة”، فالعمل الدرامي برأيها يصل بشكل أسهل للناس وبطريقة ممتعة، لكن ابنها محمد “تسعة وعشرون عاماً” الذي يعمل في مجال صنع الحلويات بلبنان منذ أكثر من سبع سنوات يقول إنه ليس متفرغاً أصلاً لمشاهدة هذه الأعمال لأنه يصلُ ليله بنهاره بالعمل لكي يُعيل أسرته، فيقول إن بعض مقاطع الأعمال تطالعه عبر السوشال ميديا.

لكنها تدعوه للضحك لأنها “مجرد كلام” ولا تفيد برأيه أحداً من اللاجئين السوريين، بل تفيد صنّاعها فقط الذين يقبضون آلاف الدولارات من ممثلين ومخرجين وكتّاب ولا يستذكر أحدٌ منهم اللاجئين الذين تحدثوا عنهم في مسلسلهم أصلاً، كما يقول: إن هذه الأعمال موجهة سياسياً أكثر من كونها واقعية، ولا يوجد عمل درامي برأيي وضّحَ مثلاً أن الكثير من المنظمات وأولها الأمم المتحدة “تكذب علينا” ولا تساعدنا سوى بالقليل جداً بين الفينة والأخرى بمبالغ لا تكفي معيشة شخص واحد، في حين يظننا اللبنانيون أننا نعيش أفضل منهم بسبب ما نحصل عليه من مساعدات “بالدولار” وهذا الأمر بالأصل غير صحيح لأن المساعدات “مضحكة” ولا تأتي كل شهر، و المفصولون من المعونات من الأمم وغيرها من المنظمات أكثر من الذين تتم مساعدتهم، والمساعدات بالأصل ليست من جيوب الحكومات، لذلك نحن نعمل بالقليل كي نستحصل على رزقنا بالحلال.


في حين تقول ريم “ستة وعشرون عاماً” وهي لاجئة في لبنان مع عائلتها منذ أكثر من ست سنوات بأن هذه الأعمال هي وسيلة مهمة لإيصال صورة عن السوريين اللاجئين ليس في لبنان فقط بل بعدد من الدول، لكن يجب أن تُطرح بطريقة موضوعية دون الإساءة للشعب المضيف حتى لو بالتلميح، وتؤكد ريم أنها طيلة فترة إقامتها بلبنان لم تتعرض لمواقف عنصرية أو مسيئة إلا فيما ندر، بل على العكس، تَعتبر أن اللبنانيين شعبٌ مضياف وكريم وأن أغلب من ساعدوهم حين جاؤوا إلى لبنان هم لبنانيون وأصدقاؤها من اللبنانيين كُثُر ويحبونها كثيراً، وما نراه على السوشال ميديا من عبارات عنصرية لا تشكّل أكثر من عشرة بالمئة من الشعب اللبناني برأيها، ويجب على الأعمال الدرامية عدم التعميم.


في حين تعتبر “سلمى “خمسة وثلاثون عاماً” وهي سورية مقيمة في لبنان منذ أكثر من عشر سنوات أن مشكلة هذا النوع من الأعمال الدرامية هو التعميم، أي أنها تعمم على الشعب المضيف بأنه “سيئ أو جيد بالمطلق” وتعمم على كل اللاجئين السوريين بالغالب أنهم “شراشيح” أو غير حضاريين وكأنهم عاشوا كل حياتهم وهم لا يفقهون شيئاً من العلم والثقافة والتربية، وهذا خاطئ بالمطلق ويصدر صورة سيئة عن اللاجئين قد تخيف أي شعب مضيف منهم ومن أفعالهم، وتساهم هذه الأعمال الدرامية بتكريس هذه الصورة النمطية وكأننا شعب لا يستحق الاحترام والتقدير، والمشكلة أن من يصدّر هذه الصورة هم النجوم والكتاب والمخرجون السوريون بأنفسهم

هل ما يطرح أمام الكاميرا يضع الحلول؟

مقارنةً بالأعمال التي تطرح قضايا أخرى، نجد أن الأعمال الدرامية التي تتحدث عن اللاجئين هي قليلة جداً، ويعود ذلك لخوف المنتج السوري أو العربي من تقديم هذا النوع من المسلسلات وذلك بسبب التبعات السياسية التي قد يحملها هذا الموضوع، فضلاً عن سياسات المحطات العارضة التي قد ترفض شراء العمل على اعتبار أنها حكماً تابعة لسياسة دولة ما يجب أن تتماهى معها ولا تخالفها، لذا يحاول المنتِج أن يبقى في الجانب الآمن وينتج ما هو بسيط وسهل التلقي والبيع دون الخوض في إشكاليات “بتوجّع الراس”.


وعلى اختلاف وتنوع الطريقة التي طَرحت بها المسلسلات قصص اللاجئين ومعاناتهم تبقى تلك الحكايات رهينة لتبعية الشركة المنتجة السياسية ورؤيتها، بالإضافة لرؤية الكاتب والمخرج وماذا يريد هؤلاء الأشخاص أن يحكوا في هذه الأعمال ويوصلوا للناس من رسائل حسب رؤيتهم وخلفياتهم.
ورغم أن الأعمال الدرامية السورية والعربية لم تكن يوماً قادرة على وضع حلول للمشكلات المطروحة في سياق العمل وهذه ليست مهمتها أصلاً، مهمتها هي وضع الإصبع على الجرح وعكس الواقع من خلال التركيز على قضايا مهمشة لتسليط الضوء على معاناة أصحابها وإيصال صوتهم إلا أن الحلول تبقى بين أيدي أصحاب الحل، وطبعاً هم ليسوا صنّاع الأعمال الدرامية، بل ربما هم وسيلة بين الشرائح المَحكي عنها في العمل والسلطات المعنية لإيصال الصورة ضمن حكاية درامية تحتمل بعض المبالغات طبعاً لأنها “دراما” وليست نشرة أخبار، وبالتالي فإن إيصال هذه الحكايات عبر الشاشة الفضية أو الذهبية هو بمثابة تنويه على قضايا مجتمعية “من بينها قضية اللاجئين” لعلها تكون خطوة للأمام في وضع خطة لحل هذه المعضلات.


لكن لا بد من التنويه أن الأعمال الدرامية هذه هي أسلوب حكائي مهم وخطير بنفس الوقت في تمرير أفكار ورسائل سياسية واجتماعية، ولديها مسؤولية كبيرة بتقديم صورة متوازنة عن الشرائح المَحكي عنها دون مغالاة أو تحيز أو إساءة.