فادي وشكران.. القلعة والحصان

من سلسلة مقالات نجوم العيد مع شارل عبد العزيز

حين يشعل صنّاع الدراما الأضواء على رقعة الأعمال الرمضانية، تتوزّع المساحات بين الأعمال الجيدة والأعمال الأقل جودة، فالتي تقترب من المنتصف تحصل على القسم الأكبر من الضوء واللعب وتحرُّك القطع عليها، وأما التي تتموضع على الحواف تقل الفرص في التركيز عليها أو مرور القطع المهمة.

يأخذ كل فنان نصيبه وموقعه المناسب، ويقف نجوم الصف الأول في خانة الملك والوزير والجميع يحاول حمايتهم، فبطل المسلسل لا يموت إلا في النهاية كما الملك، إلا أن مساحة لعبهم وتحركهم ضئيلة، وتكاد تكون غير مفيدة أحياناً حالهم حال البيادق التي تُقتل أولاً وتكون الافتتاحية للقسم الثاني.

أما القطع الأكثر تأثيراً وتشويقاً في اللعبة هي التي تجاور الملك، كالفنانين شكران مرتجى وفادي صبيح اللذين تجاوزا مواقع البيادق، وفي الوقت عينه كان من الصعب وفقاً للمعايير التلفزيونية أو التسويقية ربما أن يحصلوا على موقع الملك، وهذه المعايير تبتعد عن الموهبة والاجتهاد وتتعلق بالمظهر الخارجي وقياسات الشكل والوزن وغيرها.

منذ بداية مشوارها الفني أثبتت الفنانة شكران مرتجى قدرتها على تغيير جلدها الفني، ووُضِعت أمام تحدياتٍ لا حصر لها، من الأعمال الكوميدية والتراجيدية والتاريخية والشامية، وذلك ضمن المبالغة والهدوء وتغيير الشكل والصوت وغيرها، واستطاعت في كل مرة أن تأخذ النص الورقي الذي أمامها وتحوّله إلى إنسانٍ حقيقي تتوقع أن تصادفه في الطريق، وتحركت في كل الاتجاهات كالقلعة التي يحق لها أن تسير شمالاً ويميناً وما شاءت من خطواتٍ ومساحات، والملفت أنها لم تتوقف عن العمل عاماً واحداً منذ منتصف التسعينات وحتى اليوم، لم تسترح أو تترك الرقعة، ومع ذلك لم تستنفذ موهبتها، وحتى إن كررّت نفسها في بعض المرات وشعرنا أن شكران وصلت إلى سقف العطاء، تعود لتفاجئنا بأن لديها الكثير لتقدّمه، وتلغي بذلك فكرة أهمية مساحة الدور، لأن معظم الشخصيات الراسخة التي لعبتها كالآنسة “أمل جمال” أو “طرفة العبد” أو “أساور” ثانوية، وربما لا يتجاوز الدور فيها المئة مشهد حتى، ومع ذلك يذكر الجمهور اسمها ضمن قائمة الأبطال.

قد تنطبق نفس الصفات على الفنان فادي صبيح الذي عرفناه في بداياته في الأدوار التاريخية، لينتقل بعدها إلى عالم الكوميديا، ثم إلى الأعمال الاجتماعية والشامية، وفي كل مرة كنا نعتقد أن هذا هو المكان الأفضل لفادي ومن الصعب أن يتقدّم للموقع الذي يليه، ولكنه كان وبكل سلاسةٍ يقفز عدة خطوات كالحصان الذي يصنع بحركته فرقاً في المساحة والاتجاه ويفاجئ من يشاهده لأن لا أحد يتوقع حركته، ويبذل ما يملك من مجهودٍ وأدوات في خدمة الشخصية، حتى نحتار معه بأن فادي الذي لعب دور “لبيد” في الزير سالم هل هو ذاته الذي لعب دور “أبو مقداد” في الولادة من الخاصرة؟، وهل هو ذاته الذي لعب دور “سليم” في ضيعة ضايعة؟.

نشعر أن فادي صبيح يأخذ إلى موقع التصوير حقيبةً يجمع فيها انفعالات ولازمات ونظرات وتعابير الشخصية التي سيلعبها ثم يستحضر ما يشاء منها قبل التصوير، لأن السلاسة والانضباط اللذين يحافظ عليهما لا يوحيان إلا بذلك.

اجتمع فادي وشكران مراتٍ عدة، ولا سيّما كثنائية كوميدية في مسلسل “أبو جانتي”، وعدّة لوحات في سلسلة “بقعة ضوء”، وحتى في الأعمال الاجتماعية مثل “الحب كلّه” وكانت الحرفية في أبهى أشكالها بينهما، ولكنهما صنعا العام الحالي نقلةً في شخصيتي هاشم وسُكّر في مسلسل “مع وقف التنفيذ” (نص علي وجيه ويامن الحجلي/ إخراج سيف السبيعي)، فكان هاشم هو ابن الحي الشعبي الذي يعمل في العراضة مع أخوته، ويلتزم في العادات والتقاليد والأصول، وفي لحظةٍ معينة يلحُّ عليه الرجل في داخله بجوانبه الذكورية الشرقية التي تفشل سُكّر في إشباعها رغم طاعتها والتزامها وتقديمها الغالي والنفيس لكي تبقى على ذمّته بعد حادثتي طلاق، فيتزوجا عليها “أوصاف ” ويحرق قلبها  لتصبح في البيت “الملطشة”، وكل جهودها باءت بالفشل ولم تثنِه عن طلاقها للمرة الثالثة والأخيرة، لتصرخ بأعلى صوتها كي لا يفعل، فكل ما كابدته في المنزل طيلة السنوات السابقة راح سدىً، ولكنه عاد لصوابه في النهاية ليكتشف بأن لا غنى له عنها.

يعرف فادي كما شكران كيفية صناعة الشخصية وضبطها من المشهد الأول وحتى الأخير، ونقلها إلى عدة مستويات ومراحل حتى لحظة الانفجار والتي تُسمّى بلغة الدراما “الذروة”، ليقدّم كلاً منهما “ماستر سين” يؤكدان فيه على أن الشخصية تسير في الاتجاه الصحيح بحركاتها وسكناتها وانفعالاتها، دون انتقاص وبرودة تجعل الموقف هشّاً، ودون مبالغة المبتدئين.

للجنون نصيبه من مسيرتهما، وقد تذهب الرغبة بهما إلى أماكن جديدة ومُبالغٍ فيها يمكن أن تفاجئهما قبل أن تفاجئ المشاهد حتى، وبعد هذا العمل الاجتماعي القاسي الذي جسّدا فيه شريحةً اجتماعية لا يُستهان بها من نماذج ما بعد الحرب في سوريا، قد نشاهد شكران مرتجى في عملٍ كوميدي ترسم فيه الضحكة على وجوهنا بعد الدمعة، وقد نشاهد فادي صبيح بطلاً في حارةٍ شامية، لأن الموهبة قبل كل شيء هي التي تحركهما بعد كل خطوةٍ قائلةً: “إلى الأمامِ سرّ”.