«بكرا بيجي نيسان» تجربة يُحكى بأمرها

بقلم: جوان ملا

تكثر الأعمال القصيرة العربية مؤخراً في طريقة إنتاجية جديدة لملاحقة رَكب هذه “الموضة” في عصر المنصات، وكان للأعمال السورية الخالصة حتى اليوم حضوراً خجولاً في هذه الأعمال بدأ ينتعش أكثر في الآونة الأخيرة.
غولدن لاين كانت من أوائل من دخل هذا السوق لتقدم عدة أعمال وقد كان آخرها “بكرا بيجي نيسان” عن نص كتبته ندى السماوي وأخرجه بيبر قلام، وشكّلت الثمانية التلفزيونية هذه حالة ترقب عند الجمهور، خصوصاً أن قلم ندى هو قلم جديد و بيير مخرجاً لأول مرة.

مفاجآت مجانية:

يخلو النص عموماً من حوارات مهمة أو رنانة تبقى في البال لكنه لم يتعامل مع المُشاهد بنفس الأسلوب الذي تتعامل معه أعمال المنصات، فكثير من هذه الأعمال باتت تبطئ من إيقاعها حتى الوصول لآخر حلقة، لكن في هذه الثمانية السورية كانت المفاجآت عنوان الأحداث، فلا تمر حلقة إلا ويكتشف المُشاهد شيئاً جديداً، بدءاً من زواج نيسان (قمر خلف) في الخارج، حمْلها، وفاة والدها منتحراً، وحتى في شخصيات باقي العمل، فقد يظن المشاهد مثلاً أن نسرين (نانسي خوري) هي طليقة شادي (يزن خليل) لكن يتبين أنها مطلقة من رجل آخر تزوجته هرباً من حب شادي السابق.

يعتقد المُشاهد أيضاً أن شخصية إيهاب (جلال شموط) شخصية إيجابية فعلاً ليتبين العكس، وأن شقيق نيسان الأصغر أبكم لتحدث المفاجأة لاحقاً، تفاصيل أخرى كثيرة لا يمكن إلا الإشادة بها لأنها كانت تشكل صدمة حقاً ولا تجعل من العمل خافتاً.

لكن المشكلة في أن بعض هذه المفاجآت مرت بشكل مجاني دون التركيز عليها بشكل قوي يحقق نوعاً مختلفاً من التشويق، فهي تمر بحوار عادي مرور الكرام دون التركيز على الحدث المفاجئ بعينه بطريقة يجب أن كون مصنوعة بحرفية أكثر، بل يتم اكتشافها مرات بالصدفة البحت، كما حصل مع نيسان في النهاية حين عرفت بلعبة أخيها مع (إيهاب) لمجرد مرورها بالصدفة أثناء حديثهما من أمام باب غرفة شقيقها، ما جعل الفكرة تضعف جداً، بل وحتى في ردة فعل عبير (سلمى المصري) بعد معرفة نوايا حبيبها السابق (إيهاب) والتي كانت أقل من عادية وغير مكثفة أساساً.

كما أن علاقات الحب كانت غير ناضجة تماماً، فهي تنشأ بسرعة وتنتهي بسرعة، كعودة مشاعر جاد (ميلاد يوسف) الجارفة فجأة لحبه القديم، تاركاً خطيبته أروى (سارة الطويل) في مهب النسيان بطريقة غير مقنعة وبصورة سريعة، عدا عن اكتشافه لحبه لنيسان بعد إصابته من خلال دفتر مذكراته الذي كان موجوداً بالأصل “بالخطأ” عند صديقه، فلا نعرف أين كتب هذا التفصيل أساساً ولا متى، وحتى طريقة اكتشاف القصة كانت ساذجة.

لكن رغم ذلك استطاع العمل أن يترك هذا الأثر الممتع حين يراقب المُشاهد منحى الشخصيات إلى أين يتجه، وكيف تتحول بسلاسة من حلقة لأخرى ليرتفع الصراع الدرامي بالتدريج بطريقة مهمة لا يمكن القول عنها إنها ناضجة لكنها متوازنة بعض الشيء

أداء متفاوت:

يُلاحَظ في العمل أن الأداء لم يكن على نفس السوية بين الممثلين، فهناك شخصيات قادرة على الإقناع في حين يبدو ببعض المشاهد الأخرى أن الشخصية قد “فلتت” من الفنان نفسه، لكن بالعموم فإن ما قدمه أبطال القصة يمكن إدراجه ضمن إطار “الجيد” بأداء جديد، حيث استطاعت قمر خلف الانتقال بتركيز بين الحب والانكسار، وتحولت شخصية ميلاد يوسف كلياً بعد فقدانه ذاكرته واستطاع إقناع الجمهور أنه كان مريضاً فعلاً ومتأثراً بضربة الرأس، قد لا تكون قصة عودته لخطيبته بعد إصابته مقنعة كثيراً لكن يمكن تمريرها.

ويمكن القول إن سلمى المصري كانت ربة جمال العمل، بأداء متوازن وجميل ومقنع وربما لأول مرة نشهد على سلمى الرسامة المصابة بالباركنسون “ويُحسَب للعمل إدراج شخصية مصابة بهذا المرض لأنه يندر طرحها بهذا الشكل”، فكانت المصري قادرة على جعل الشخصية محاطة بتفاصيل المرض وتحاول التغلب عليه بالإضافة للتغلب على مشاكلها الخاصة مع زوجها السابق المقتول وحبيبها الخفي الحاضر أمامها، لتظهِر الصراع الذي يدور حولها بذكاء صنعها للشخصية.

عفوية نانسي خوري حاضرة كما دوماً، تستطيع هذه الصبية أن تقنع جمهورها بما تفعله دون برود ولا ابتذال، فكانت خوري مميزة في العمل رغم انتهاء الشخصية بطريقة ساذجة وغير مقنعة بتاتاً، فقد كان الحل الدرامي “الانتحار” لشخصية نسرين غير مقبول عموماً، الأداء السهل الممتنع طبعاً يلعبه يزن خليل كما كل مرة، فهو ينتقي شخصيات هادئة وبسيطة قد يشعر المشاهد أن اي ممثل قد يؤديها، لكن في الحقيقة لا يستطيع تأديتها بهذه الطريقة اللافتة سوى يزن خليل.

تطور ملحوظ في أدوات بلال مارتيني وقدراته التمثيلية التي تنضج تدريجياً عن ذي قبل، حضور مهم لنوار سعد الدين رغم صمته فالعينان كانتا تتكلمان بذكاء، لا تقلبات خطيرة في شخصيتي جلال شموط وسعد مينة، في حين بدت سارة الطويل بأدوات خافتة باردة بردّات الفعل مقارنةً ببلال وميلاد في الحلقات الأولى، لكنها صححت المسار في النهاية حين انقلبت القصة لصالحها فاستطاعت مسكَ الشخصية أكثر، وقدم مجد مشرف أداءً جيّداً مقنعاً لكنه يحتاج “هوَ وسارة الطويل تحديداً” لأدوار أكبر أو شخصيات أنضج كي يستطيع المشاهد أن يلمس قدرة خريجَي المعهد العالي للفنون المسرحية على خلق الشخصيات وصنعها، أما الممثلة الجديدة الشابة “يمان ابراهيم” فمن الواضح أنها متأثرة جداً بأداءها بالفنانة هيا مرعشلي، فكانت تجربتها “تقليداً” أكثر من كونها تمثيلاً وابتكاراً.

تنفيذ يقف في المنتصف:

هي تجربة أولى لبيير قلام في عالم الإخراج، منتقلاً من مساعدة المخرج إلى إدارة دفة عمل كامل، يمكن القول إن بيير استطاع الإمساك بزمام الأمور منذ تجربته الأولى، وكان قادراً على رصد لقطات دافئة لعمل رومانسي اجتماعي هادئ يذكرنا بالأعمال البسيطة التي نحب.

قد لا تكون كل المشاهد محبوكة بنفس الطريقة، فبعضها قد سُلِقَ على عجل كمشهد النهاية الذي كان يمكن صياغته بطريقة أفضل، إنما عموماً كانت كاميراه مهمة وساعدت على احتواء الشخصيات في كوادر جيدة، لا إبهار عظيم لكن لا استهتار أيضاً، بل جهود تُحتَرم في ظل ضيق “لوكيشنات” العمل ومحدوديتها الواضحة والتي تدل على قلة إنتاج واضح تماماً وهذا ما لم يساعد المخرج على ترك بصمة خاصة أو زوايا تصوير مختلفة، فالكاميرا تدور في ثلاثة أو أربعة أماكن، لا هوية بصرية يمكن صنعها بهذا الشكل السريع، إنما في عمل مكون من ثماني حلقات بشخصيات قليلة تدور في فلك واحد يمكن التغاضي عن تنوع الأماكن وبهرجتها والصورة اللونية التي كان من الممكن أن يقدمها بيبر، عدا عن تحديد مدة إنهاء العمل برُمّته بثمانية عشر يوماً وهو وقت غير كافٍ لصنع حالة خاصة.

لكن يمكن القول إنه استطاع اجتياز اختباره الأول بنجاح ويبقى الجمهور منتظراً فرصته الثانية الأغنى فإما أن تكشف عن مخرج سيضيف لمعادلة الإخراج بطريقته الخاصة أو سيكون مؤطراً بدائرة محدودة كلاسيكية لا تجديد فيها إنما قائمة على “القَطعات” والكوادر البسيطة.

المشكلة الكبرى كانت في الموسيقى التصويرية، ففي الوقت الذي لا نسمع فيه أي صوت للمغني آدم في شارة العمل، يصطدم المشاهد فجأة بصوته في منتصف الحلقات، والموسيقى التصويرية المأخوذة نفسها “نسخ لصق” من سلسلة “بصمة حدا” التي قدمتها الشركة قبل رمضان الماضي، ويبدو أن خطة غولدن لاين القادمة حسب هذه المعطيات تدل على أنها تريد إضافة هذه الثمانية لثمانيات أو عشاريات أخرى في جزء ثانٍ من السلسلة نفسها قد تقوم بتنفيذه قريباً.

“بكرا بيجي نيسان” حكاية دافئة مفاجئة لعمل بسيط يذكرنا بالدراما السورية القديمة ذات التفاصيل غير المعقدة، ورغم أنه كان من الممكن أن يُقَدم بصياغة أفضل وحياكة أجمل نصاً وتنفيذاً إلا أن هذه التجربة السورية يُحكى بأمرها ويمكن أن نصفق لها احتراماً وحباً