شمس ومجد.. رحلة تلامس ذرى الأمل

بقلم: أنس فرج ومحمود المرعي

الصور للمصورة دنيا صبح

على خشبة المسرح الدائري في المعهد العالي للفنون المسرحية، كان الجمهور على موعدٍ مع عرض مسرحي جديد، وهذه المرة ليس لطلاب قسم التمثيل في أحد دورات تخرجهم، بل بحالة استقطاب معاكسة لخريجي القسم نفسه بعدما أنهوا دراستهم في المعهد.

سبعة أحلام لسبعة طموحين هي حصيلة المختبر المسرحي الذي قاده الأستاذ أسامة غنم لينجز على مدى أكثر من أربعة أشهر وبعد 16 بروفا متواصلة يومياً عرض مسرحي مدته ثلاث ساعات ونصف حمل اسم “مجد وشمس”.

ينطلق العرض من حكاية أختين “شمس ومجد” اللتين تقطنان في العاصمة دمشق وتعملان كنادلتَين، “شمس” الباحثة عن فرصة لتصبح ممثلة عن طريق مدرب مسرحيّ “خليل” في معهد للتمثيل بمدينة جرمانا بريف دمشق، و “مجد” طالبة دبلوم علم الاجتماع تسعى لقراءة الحياة من منظورها الطيّب فتصطدم بمفاهيم جديدة للمدينة المتحولة أمامها وبرفقة زميلها في العمل “طارق”.

المسرحية المؤلفة من شخصيات شبابية مؤمنة بالعمل المسرحي الذي من المُفترض وبالأحوال العادية أن يتفوق على كل الفنون الأُخرى لأنه أبوهم.

تعارضت وجهات النظر، الحياتية منها والفنية على وجه الخصوص، فالصراع بين رغبة الممثل “الخريج” باللحاق بأحلامه التي خطّط لها منذ سنوات الدراسة الأربع، واللهاث خلف الشهرة والمجد المزيّف الذي يؤمّن كل متطلبات العيش برفاهية كان سيّد الموقف.

لم يقتصر الأمر على أهل الفن فقط، فحتى أبناء المجتمع البسيط قد كان مدموجاً بأبناء الوسط الفني الذي أصبح بحاجة إلى جهود مضاعفة لإثبات براءته من زيفه ومساوماته أمام المهن والاختصاصات الأُخرى في الحياة.

شمس / آية محمود

قدّمت خريجة المعهد لعام 2020 نموذجاً للفتيات البسيطات اللواتي حلُمن بالانضمام إلى دفعات المعهد المسرحي وقوبلت بالرفض لمرّات عديدة، لكنّها ومع ذلك بقيت مستمرة بالبحث عن طريقة لطرح نفسها ودخول عالم الفن من خلال ورشات العمل والمعهد الخاصة التي وبالغالب ستقتطعُ جزءاً كبيراً من راتبها كنادلة في بار لأجل تسديد الأجور، حيرة ما بعدها حيرة تعبث بالعديد من الشابات الحالمات لولوج عالم الفن وتتأرجح بهنّ ما بين مجد وشهرة وفقدان جزء من روحهن، وما بين الاستسلام لذلك الحلم ونفيه من عوالمهنّ على أن يبقى الإنسان إنساناً بهنّ دون الاضطرار لاكتشاف حيوان ما بداخلهن يقوى على كل المبادئ التي تبنينها سابقاً.

تميزت آية بحضورها بالتنقل السلس بين حالة الرومانسية المبطنة والانفعال المتمرد، متقدمةً بذلك خطوةً للأمام لتثبت ضرورة اختبار الخريج الجديد المسرح خارج إطار عروض المعهد، لتكون آية دينمو العرض التي انتقلت من مستوى انفعالي لآخر دون أن تهبط ولو أنها كانت مستمعة أكثر مما كانت متحدثة.

مجد / جنا العبود

نادلة في مطعم، وطالبة في “علم الاجتماع”، نموذج ليس بغريبٍ علينا، الطالب الذي يؤمّن مصروف جامعته بنفسه مانعاً نفسه عن الكثير من متع الحياة، والغارق في المقارنات ما بينه وبين النماذج الأخرى المعجونة بتلك المُتع طيلة الوقت.

لتحضر جنا في العرض بحياة رتيبة على هامش المراقبين للحياة وتنجح بذلك بالحفاظ على الإنسان بداخلها من خلال قصّة حب أو شطيرة من اللحم، هدوء وغضب وحبّ ومشاعر أُخرى قدّمتها خريجة المعهد المسرحي لعام 2019.

ويجب الثناء على جنا التي تركت أثراً طيباً لدى الجمهور في موسم رمضان الفائت ضمن مسلسل “على صفيح ساخن” ليحفظ المشاهدون اسمها وينتظروا ماذا ستقدم لاحقاً، وهذا قلة ما يحدث مؤخراً في ظل التراجع الواضح للنصوص وغياب الشخصيات المرسومة باحترافية وضياع حالة التبني الحقيقية للدور على عكس ما فعلته جنا.

جوليا/ نانسي خوري

خطوة جريئة تلك، حين تُقدم خرّيجة المعهد لعام 2013 نموذجاً لنجمة خريجة أيضاً وتغلّفها بالتُّهم الاجتماعية والماركات العالمية والإقامات الذّهبيّة، تشارك بكل ما لا يُعبّر عنها ويرضي الفنان بداخلها الذي من الممكن أن تقتله “فيكتوريا سيكريت” بلحظة واحدة.

المشكلة أنّ هذا النموذج للفنان قد انتشر كثيراً في الآونة الأخيرة، والمشكلة الأكبر أن من يُصنّف تحت هذا النموذج يظهر في كثير من الحالات على أحد الشاشات بقالب اجتماعي ثقافي يحاول من خلاله تبديد كلّ تلك التهم التي تُثبت للإنسان بداخله أنّه لم يعُد موجوداً، وهذا ما يزيد جرأة “نانسي خوري” سواء في الطرح أم في الأداء على الخشبة.

نانسي التي اعتذرت عن دورٍ درامي لصالح المسرحية، تحاول أن تثبت امتلاكها للخشبة بعرضٍ سيطرت على مساحة واسعة منه سواء بالأداء أم التأثير، فـ “جوليا” المؤثرة في حياة حبيبها السابق، وصديقها صاحب البار، والفتى العابث المتواجد ليشاطرها كأس المشروب، والحالمة بالتمثيل، جميعهم يدورون في حلقة تأثير رسمتها بحضورها وتقلباتها دون أن تترك خوري ميزان الأداء يفلت منها، إذ تدخل من المسرح وتخرج منه مندفعة واثبة بإحساسات متناقضة وطرح جريء عرّت فيه واقعاً يحيط بالعاملين في الوسط الفني وغاصت للأعماق لتصوغ من ذاكرتها ملامح الوجه الآخر لـ “جوليا” المدفون تحت قناع الشهرة والتمثيل.

خليل/ ينال منصور

نموذج الفنان الأكاديمي الّذي لا يجد لموهبته مكاناً في زمن الرّداءة الفنيّة و الّذي يعتبر شكل حسابات الفنان وعدد متابعاته على السوشال ميديا هو معيار قبوله اجتماعياً وفنياً لا موهبته التي تعِب عليها وحاول شحنها في سنوات الدراسة، الشخصيّة الفنية المعاكسة لـ “جوليا” والتي تشكّل قلقاً عليها لأنّها وببساطة تذكّر “الفنان بداخل جوليا” أنه لم يعُد على قيد الحياة فتحاول التعالي على “الفنان بداخل خليل” من خلال ما وصلت إليه من حساب بنكي ورصيد أعمال درامية وانتشار جماهيري. “خليل” ذلك الفنان الحقيقي والصحيح في الزمن المزيف الخاطئ الذي لم يعُد ينتظر أن تنعدل الأمور بطبيعة الحال لكنه مازال بإمكانه أن يرمح بخياله ويعانق نفسه على الخشبة.

قدّم ينال في العرض جزءاً من رؤيته التي حافظ عليها منذ تخرجه ودفاعه عن الأسماء الملهمة في المسرح والسينما، رافضاً حالة الخلط بين العمل الفني ذات القيمة والأعمال التجارية التي لا تغني ولا تسمن عن جوع، ليقف مرة جديدة على الخشبة بعد حضوره في دمشق وبيروت وسعيه لصناعة فيلم سينمائي يعبّر عن شغفه بأداء متوازن لا يعتمد على الانفعال بقدر عرض الصورة الموازية لـ “جوليا” وحالة التأرجح بينها وبين إعادة تشكيلها بصورة “شمس”، وإن جاءت نهاية دوره مبتورة بسبب عدم تقديم مشهد النهاية كما صرّح دون معرفة إذا كان السبب “رقابياً”.

طارق/ جان دحدوح

النموذج الشعبي البسيط لنادل لم يعد يزعجه أي شيء، واستسلم لفكرة أن يبلغ المجد يوما ماً، الرجل الذي لا يُخطط بل يعيش أيامه واحداً تلو الآخر والذي لم يختر شيئاً في حياته سوى أن يكملها على النحو الذي يضمن استمراريته دون مقاومة منه أو ممانعة إلى أن تقابله “مجد” وتحرّك ذاكرته بتحليلاتها كما لو أنه مادة لإحدى حلقات البحث الّتي تُعدها للجامعة، ليكشف لنا “طارق” أنه شخصية مليئة بالدّراسات والتجارب الاجتماعية ويمكن استخلاص أهمّ وأفضل النتائج منها.

قدّم جان في المسرحية أداءً خاصاً جعله يسحب الضوء نحوه بطريقة تعبيره ولغة جسده وعفويته التي ظهرت ملائمة للدور وداخلة في أعماق تفاصيله، ليثبت دحدوح تفوقه المسرحي في ظل غياب الحضور التلفزيوني ويشكل مع جنا العبود ثنائية يمكن اقتطاعها لوحدها وإدخالها في سلسلة “بقعة ضوء” تارة وصياغتها كمسلسل رومانسي تارة أخرى، وكأنّ ما قدما مزيجاً من أعمال سينمائية وتلفزيونية ومسرحية زاد جمالها استنساخ مشهد التحليق على مقدمة السفينة في فيلم “تايتنك”.

مارشميلو/ فادي حواشي

النموذج الحر للشاب المتمرد على الواقع خلف اسم مستعار وسط حانة تجمع الأصدقاء وتصبح ملاذاً لتفريغ الهموم، يستقي “مارشميلو” من ماضيه ذكريات ما زالت تسكنه وتدفعه للاختباء أكثر خلف اسم ثانٍ لم يختره بل اختاره أعمامه له، وبذلك يشكل حلقة الوصل بين أبطال المسرحية وبذات الوقت يبرز مدى الذاكرة البصرية التي تسكنه في التحامٍ ساحر بين الماضي والحاضر وطاقة تمثيلية عالية قدمها حواشي على المسرح.

غيث/ علاء زهر الدين

الخريج الأحدث بين المشاركين أثبت قدرته على الدخول في النص المتشابك ورسم خط خاص به ولو جاء متأخراً في سياق الأحداث ليكون الصامت المنصت العكاز والبديل قبل أن يظهر الجانب الكامن خلف سكوته وتعامله مع الحياة بالنموذج الأخير والأكثر حداثة للشاب المتخلي عن علاقته مع المحيط، السلس في بناء العلاقات وهدمها والتفاعل مع الواقع من بوابة منصات التواصل الاجتماعي ليرسم ظلال الهاربين من آثار الحرب والراضين بالعيش على رصيف الحياة بانتظار تغير المشهد القائم.

عن الشمس

الحكاية في ضوءها الساطع تظهر اختبار الفرضية المسرحية التجريبية في هدم المتوقع والسائد والانتقال إلى تسلسل مشاهد منفصلة متصلة لا ترتبط زمنياً بقدر ما تبني وتؤسس نمط الشخصيات وتفاعلاتها، ليغيب الحدث الفعلي الراهن ويظهر الحوار في الصدارة بديكور بسيط لا يخلو من الخيال بجانبين: خيال يبنيه الممثلون عبر حواراتهم، وخيال يبنيه المتفرج حول ما يحيط بهم من أمكنة وشخصيات.

لذا يحسب للمغامر الأستاذ أسامة غنم العمل على مختبر مسرحي أنجز ما أنجز وسط ظروف المسرح المتعبة والمنهكة، والتغريد خارج سرب العروض القائمة على نصوص الكتاب المسرحيين الكبار وإعادة توليفها لتلائم الواقع الراهن.

في حين يزيد انعكاس الضوء في حدة الأداء الذي ظهر مفتعلاً في بعض المشاهد على حساب الدخول في سياق موحد للحكاية، وطول مدة العرض التي كان من الممكن اختصارها لصالح التكثيف المطلوب وبناء علاقة أمتن مع الشخصيات والتي لم تظهر بذات القوة في سياق العرض الزمني.

عن المجد

يمكن أن يلفت العرض طلاب المعهد ويدور في فلك أفكارهم، كما يمكنه أن يمس الجمهور غير المسرحي ويلامس داخلهم تقاطعات يومية يعيشونها في أماكن العمل أو يشاهدونها على شاشة التلفزيون.
لذا يحسب للمسرحية الدخول في أعماق شخصياتها عبر المختبر الذي سبر أغوار الأبطال السبعة ونسج من حكايات ماضيهم تفاصيل ظهرت حقيقية كأنها تروى في حالة اعتراف أو جلد للذات.

وإن كانت تحتمل ضبطاً أكبر للمعاني التي يقدمونها في حواراتهم والتي جعلت العرض مليئاً بوجهات نظر مختلفة تحاول تصوير الواقع أكثر من محاولة الخروج بحلول أو السير نحو مصائر الشخصيات وعواقب قرارتها ونهجها في الحياة.

ويبقى الضوء في بعديه الداخلي والخارجي قادراً على جذب الجمهور على مدى ستة أيام للصعود على درج المعهد العالي والطوفان حول المسرح الدائري وانتظار أربع ساعات لمشاهدة عرض جُبِل بالحب، بالطاقات البشرية لممثليه دون ابتذال أو ادعاء، وبأمنية أن يعرض قريباً في بيروت وأن لا ننتظر كثيراً حتى يأتي عرض مسرحي جديد يجمع هكذا طاقات على خشبة واحدة.