المرأة اللبنانية في الدراما المشتركة.. «رُوج وكعب عالي»!

بقلم: جوان ملا

شكر خاص للفنانة القديرة رندا كعدي على رأيها القيّم

برز مصطلح “الدراما المشتركة” يظهر بشكل أكبر بعد بدء الحرب في سوريا، حيث اعتاد الجمهور منذ زمن على وجود دراما سورية أو لبنانية أو خليجية أو مصرية “محلية” في الغالب مع وجود عدد قليل من الأعمال المشتركة والتي كانت مبررة في سياقها ومحبوكة ومتينة الصنع في حواراتها وتفاصيلها، لكن اليوم يظهر هذا المصطلح على الأعمال التي يلعب بطولتها نجم سوري مقابل فنانة لبنانية، وغالباً ما يكون العمل من تأليف وإخراج سوري وكادر فني سوري، وقد تسبب هذا النوع من الدراما بصراع دائم بين الشعبين السوري واللبناني على تحديد من هو الأفضل والأجدر بالدراما ومازال هذا النقاش العقيم مستمراً، لكن إن توجه تركيزنا لموضوع محدد في هذه الدراما وهو المرأة اللبنانية، وصورتها بالأعمال المعروضة، هل سنجد صورة حقيقية لها؟ أم أن متطلبات السوق الإنتاجي أصبحت ترغب بوجود فنانة تبرز جمالها أكثر مما تظهر أداءها؟

النساء اللبنانيات في دراما الماضي:

إذا ما عدنا سنوات للوراء سنجد أن الدراما اللبنانية المحلية طرحت صورة المرأة بشكل أفضل مما هو عليه الآن، فشاهدنا العديد من الأعمال اللبنانية التي قدمت نماذج متعددة من النساء اللواتي حملنَ قضايا هامة من داخل مجتمعهن، فمثلاً أدت كارمن لبس في مسلسل “ابنة المعلم” صورة المرأة القوية الواثقة التي حملت أعباء عائلتها من خلال المدرسة التي ورثتها عن والدها، فربّت طفليها لوحدها وكانت مثالاً حقيقياً للمرأة اللبنانية التي تسعى بجد لتكسب نفسها بعيداً عن ضغوطات الأهل والمجتمع، وفي الوقت الذي تجسد فيه الدراما المشتركة صورة المرأة اللبنانية في الغالب على أنها سيدة مترفة تعيش في القصور والفيلات، طرحت الدراما اللبنانية سابقاً حالة مختلفة مناقضة في مسلسل عصر الحريم الذي تركت فيه نادين الراسي عائلتها الثرية المتسلطة، وذهبت لتكوّن شخصيتها واستقلالها الفردي والمادي بعيداً عن ظلم الأهل، في حين لعبت الفنانة رولا حمادة في مسلسل فاميليا دور رئيسة تحرير لمجلة سياسية تدافع عن قضايا المرأة، وفي الوقت عينه هي أرملة وربة منزل، آثرت عدم الزواج لتعتني بأبناءها الثلاثة ووالدتها.

كما شاركت الممثلات اللبنانيات بأعمال مشتركة داخل سوريا بجنسيتهن اللبنانية ولهجتهن نفسها دون تغيير، والأمثلة على ذلك كثيرة ولا سيما في الأعمال التاريخية وأيضاً الأعمال الاجتماعية مثل “شيفون، عشتار، عصر الجنون، رجال الحسم” والقائمة تطول، وهذه الأعمال لم تظهِر المرأة اللبنانية إلا على شكل سيدة لديها دور صادق وحقيقي تقدمه، وقضية تتكلم عنها دون الاهتمام المبالغ به بالمكياج والأزياء كما يحصل اليوم، حيث كانت تلعب الفنانة اللبنانية على أدواتها التمثيلية بكل حرفية مثل كارمن لبس في عصر الجنون، ماغي بو غصن في الخوالي وأسرار المدينة، ورد الخال في الموت القادم إلى الشرق، سميرة البارودي في رجاها، وغيرهن الكثيرات

المرأة اللبنانية درامياً في إطار واحد:

باتت شركات الإنتاج اللبنانية بعد تراجع الدراما السورية نتيجة الحرب تبحث عن “ملكة جمال أو مودل أو فتاة إعلان لبنانية” لتصدّرها على أنها “نجمة التمثيل” القادمة، علماً أن هناك فنانات لبنانيات -كالآنف ذكرهن- وغيرهن أيضاً، لديهن الخبرة والمهارة الكافية لتقديم أدوار البطولة بحرفية عالية تفوق “الممثلة المودل” مثل زينة دكاش، فيفيان أنطونيوس، ريتا برصونا، رولا شامية، هند باز، كارول الحاج، ندى أبو فرحات والكثيرات أيضاً.

لكن الآن يكفي أن تكون بطلة العمل قد طابقت مواصفاتها الجمالية رغبات المنتجين وأهوائهم، ليكنّ هنّ بطلات الأعمال بأداء لا يخلو من البرود، ويشبه “المانيكان” المعروض على واجهات محلات الألبسة،

وهو ليس بالأمر السيئ عموماً في حال استطاعت هذه الممثلة الجديدة أن تثبت وجودها، لكن دائماً ما تتعكز هؤلاء الفنانات في البطولات على وجود النجم السوري بحانبهنّ، فنادين نسيب نجيم مثلاً لعبت عدة أدوار بجانب تيم حسن، قصي خولي، عابد فهد وذلك في تهميش واضح لنجوم لبنان الشباب، وللفنانات اللبنانيات الحقيقيات والأكاديميات.

ففي كل الأدوار لم تظهر نادين سوى على شكل سيدة جميلة يتصارع الرجال عليها ليظفروا بها، فلم تستطع أن تؤدي دوراً صعباً كأن تكون متسولة مثلاً أو مطلقة أو أرملة أو تعاني من ضغوط العمل والحياة، وكان إبراز المكياج والأزياء أهم من تقديم الأدوات الفنية، فقد تعرضت نادين للنقد الشديد في مسلسل خمسة ونص كونها تلعب دور طبيبة في المستشفى وترتدي دوماً الكعب العالي، وهذا غير منطقي في مستشفى، وحتى حين لعبت دور الفقيرة في مسلسل طريق كانت ترتدي ثياباً من أفخم الماركات، أما سيرين عبد النور في مسلسل الهيبة فظهرت بمكياج كامل وهي مستيقظة من النوم للتو، علماً أن أول عمل لسيرين عبد النور ظهرت به كممثلة هو مسلسل “غريبة” الذي لعبت فيه دور سيدة مشوهة بعد حادث طائرة، لكن الآن نادراً ما تظهر أي فنانة لبنانية على الشاشة دون مكياج كامل سواء تطلب المشهد هذا أم لا، في حين قدمت دانييلا رحمة نفسها على أنها الفتاة الأجمل التي يتصارع عليها ثلاثة شبان بمسلسل العودة ودانييلا بالأساس عاشت خارج بلادها لبنان، ولا تتحدث اللهجة بشكل طليق كما هو مفترض.

كل هذه الأعمال صدّرت المرأة اللبنانية على أنها سيدة أرستقراطية جميلة لا هم لديها سوى الحب والشكل والموضة والجمال أو التعرض للخيانة والحيرة في اختيار الرجال الطامعين بها، لكن أين دور المرأة اللبنانية القيادي في المجتمع في هذه الدراما؟ أين هنّ نساء المناطق المهمّشة والفقر الذي تعاني منه بعض القرى في الشمال أو الجنوب اللبناني أو في بيروت نفسها؟ ولماذا لم تفكر الكاميرات في أن تخرج من بيروت قليلاً لتعرض أزقة عتيقة أو أبنية قديمة أو قرى بسيطة؟ وماذا عن ثورة لبنان التي قادتها نساء طالبن بحقوقهن ورفعن الصوت؟.

كلها أسئلة لا تجيب عنها هذه الدراما التي نمّطت المرأة اللبنانية بإطار ضيق، وعن هذا التنميط ومن يتحمل مسؤوليته تقول الفنانة اللبنانية القديرة رندة كعدي إن هذا الأمر معنيّ به الكتّاب وشركات الإنتاج أكثر من الممثلات، إذ أن القضايا السطحية التي تطرح المرأة بهذا الشكل الهش يأتي ربما من أجل اللحاق بسوق الإنتاج، في حين تقع الفنانة ضحية لهذا النص لأن مهمة الممثلة مقتصرة على أداء الدور لا تغيير السيناريو، وتكمل كعدي بأن الإنتاجات الضخمة هي أعمال عرض وطلب، لذا تقوم بإنتاج أعمال على مبدأ “الجمهور عايز كده”، لتتحور الدراما من مخرج يبحث عن رؤية وقضية لسيناريو قوي، إلى مخرج وممثلين كأدوات فقط لتنفيذ العمل الفني كما هو مطلوب منهم من الشركة، فتحولت الصناعة الدرامية إلى تجارة تتضمن هذه الصناعة وبدون حرفية لتظهر على هذا الشكل الذي هي عليه

النزول من البرج العاجي!

قصص هذه الدراما بغالبها تدور في فلك واحد، تعلوها نظرة فوقية بالعموم، ترى الجمهور من عَلٍ، وتتطرق لقصص غير جوهرية كالحب والخيانة والعلاقات العابرة بطريقة تُصدَّر فيها المرأة اللبنانية على أنها مرتاحة البال والخاطر ومتفرغة لسفاسف الأمور ودائماً ما تكون في بيئة أرستقراطية مرتاحة مادياً، وهُنا لا بد أن يدور تساؤل في الأذهان، فيما إذا كانت الفنانات اللبنانيات قد حاولنَ أن يكسرنَ نمطية هذه الفكرة في السابق أو حتى في الوقت الحالي.

تجيب كعدي إن الفنانات اللبنانيات عملنَ على تقديم قضايا مهمة حين كانت الدراما “محلية” تسلط الضوء على مختلف البيئات، ولم يكن البطل أو البطلة محور الحدث، بل كانت الحبكة كلها لخدمة العمل والنجاح جماعي ومثال على ذلك مسلسل “أحلى بيوت راس بيروت” الذي حقق صدىً واسعاً في العالم العربي، لكن اليوم أصبح السوق مختلفاً تماماً، فالأعمال المشتركة لا تسلط الضوء على المجتمعات والمرأة المنكسرة حالياً في سوريا أو لبنان أو العراق مثلاً، والشارع اللبناني والعربي اليوم إجمالاً ينتظر أعمالاً تقدمه بشكل أعمق وتشرّح مجتمعه بهمومه ومشاكله لأن الوطن العربي عموماً ولبنان خصوصاً لديه قضايا مهمة جداً وتاريخ كبير وهو أكبر من تقديم المواضيع بسطحية وسخافة، لذا فإن العمل الفني الحقيقي هو عبارة عن مجموعة أدوار يقوم بها الجميع لا يركز على نجم أو نجمة بمضمون ومحتوى فارغ، ولتحقيق شرط المحتوى الجيد الهادف لا بد من كتّاب بأقلام هامة تضع الإصبع على الجرح، لكن إلى وقتها ستبقى الفنانة اللبنانية تعمل بأعمال قد لا تشبهها وبحسب ما يريد السوق، وذلك فقط من أجل أن تعيش ليس لأنها مقتنعة دوماً بالدور أو بالفحوى

عن النمطية في رمضان الماضي:

في موسم رمضان 2021 طالعَنا عملين تلفزيونيين ضمن إطار الدراما المشتركة أو “اللبنانية” غالباً استطاعا اكتساح الشاشات والمنصات بمشاهدات عالية، وهما مسلسلا “2020” و “للموت”، ولأول مرة شهدنا نادين نجيم وهي بشخصية جديدة مختلفة كلياً عما قدمته سابقاً، وهي شخصية النقيب “سما” التي تتنكر بشخصية “حياة العبدالله” الفتاة المحجبة الهاربة من تعنيف أخيها، حيث تدخل إحدى المناطق المهمشة في العاصمة بيروت للكشف عن عصابة تورطت في قتل أخيها.

ورغم أن القصة تشويقية وجميلة لكنها لم تخلُ من تنميط صورة المرأة لا سيما المحجبة، حيث تظهر المرأة المحجبة في الدراما عموماً بمظهر السيدة الفقيرة المغلوب على أمرها كما خرجت نادين في مسلسلها الجديد، وكذلك فتيات الحي المحجبات اللواتي يتبين أنهنّ نساء فقيرات ويعملن في تهريب المخدرات من أجل العيش، ما يكرس فكرة المرأة المحجبة الخاضعة وتجاهل المرأة المحجبة الفاعلة في المجتمع والتي لديها قضايا مهمة، لكن رغم ذلك، استطاع العمل قليلا أن يجول في حكايا نساء مهمشات ضمن حي لم يصوره مسلسل لبناني قبلاً.

أما مسلسل للموت فيُحسَب له أنه تحدث عن قضية سفاح القربى وما له من آثار نفسية مدمرة للمرأة، لكنه في نفس الوقت أظهر صورة المرأة اللبنانية التي تعرضت للظلم بأنها الباحثة دوماً عن المال و اللذة حتى لو على حساب أذى الغير، بالإضافة إلى أن بطلتي العمل ماغي بو غصن ودانييلا رحمة رغم الأداء الجيد لهما، إلا أنهما برزتا بمكياج دائم دوماً و بثياب فاخرة وشعر مصفف 24 على 24 ساعة، سواء استيقظتا للتو من النوم أو كانتا في أي حالة، حيث لا تظهر عليهما سوى مظاهر الترف والمال والجمال ليعزز العمل صورة المرأة اللبنانية التي تظهر بجمالها وتهتم بشكلها دوماً وهو ليس بالأمر السيئ طبعاً لكنه غير مقنع، علماً أن البطلتين عاشتا طفولة تعيسة لم تتضح أي من آثارها عليهما بالشكل، أي أنهما تختاران الثياب الأنيقة بذوق رفيع والأحذية الفاخرة، والتي تدل أنهما جاءنا من بيئة أرستقراطية ليس من بيئة لا تعرف كيف تؤمن قوت يومها، لينعكس ذلك فقط على حالتهما النفسية حين قررتا “الانتقام” من رجال المجتمع

تبقى المعضلة هذه بين أيادي المنتجين اللبنانيين الذين يحاولون صنع نجمات “جميلات” لا نجمات حقيقيات يقدمنَ قضايا مجتمعهن كما يجب، لتظهر المرأة اللبنانية بسببهن هشة وساذجة في كثير من الأوقات، متناسين أن هذه المرأة نفسها صرخت في الساحات ضد الفساد، طالبت بحقوقها، وهي إلى اليوم تعمل، تنتج، تدرّس، تُطبّب، تحاور، وتصنع مستقبلها، هي ليست شكلاً جميلاً أو سلعة نتفرج عليها، فلدى السيدة اللبنانية من شمال البلاد إلى جنوبها قضايا أهم بكثير مما يُطرَح على الشاشة وينمّط شخصيتها ويجعلها بنظر الكثيرين غير مرئية رغم وضوح وجودها على الشاشات!