قيد مجهول.. اضطراب يعيشه معظم السوريين

بقلم شاكر الزعبي

بخلطة فنية متقنة أثبت السدير مسعود أنّ الإخراج ليس هواية يجلس المخرج ليبتدع عبرها الأفكار فحسب، بل هو حالة ابداعية ينفرد فيها الفن كسلوك متقن للخروج بالنجاح، وهو أيضاً تراكم معرفي وتمرين دؤوب للخيال وإخصاب يومي للتجربة وإدراك للشكل الفني الفذ كأداة مبهرة وحاضنة محملة بالأهداف .

السدير أدرك بأن هذه الصناعة تركيبية واستقصائية وتحتاج للكثير من العمل والبحوث حول تقديم عمل بلا منافس، فما صنعه في ثماني حلقات لم يسبق له مثيل بصناعة متكاملة في الدراما السورية منذ عقود، وهذا مبشّر لحقبة درامية جديدة ومتطورة تراعي عقل المشاهد وتفصل بين الواقع والخيال وتتفوق على الأعمال النمطية المحدودة والمؤطرة عبر عمل يصور الواقع السوري بعرضه حالة مرضية وهي اضطراب الهوية التفارقي، ذلك من خلال قصة بوليسية تدور حول سلسلة جرائم قتل يتورط فيها كبار الشخصيات من مسؤولين ومشاهير ورجال أعمال وحتى أجهزة أمنية وخلفها صفقات غير مشروعة، ولا توجد علاقة واضحة أو مباشرة بين كل ذلك.

التورط في الواقع

عبر «قيد مجهول» وصلنا صوت خياط القوي وملامح عمايري المنهكة، فضمن الحلقات الأولى كنّا نرى عمل أنجز في عام ليظهر لنا على العلن ويحكي ما كان يحصل منذ عقود, فقر وقهر وتشرد ربما، و هذا هو الواقع السوري بلا شك.

حكاية فتحت للمشاهد نوافذ عشر سنوات أفُلت من خلال مجموعة من الأسئلة التي لا بد أن تلّح على الجمهور أثناء المشاهدة عن كيفية سير الأحداث العنيفة مثلاً وكيف تعاملت الشرطة مع هذه الجرائم بتقنيات وأساليب مثالية لا تستخدم في التحقيق بصورته النمطية الكلاسيكية، وبنفس الوقت كانت إشارة حقيقية لثغرات جوهرية في عمل رجال الأمن أي أنّ العمل لا ينفصل عن الواقع السوري.

الارتباط استمر أيضاً عبر شوارع وحارات وأسماء أماكن معروفة في دلالة واضحة على الهوية السورية، فضمن الحلقات الست الأولى لم يكن التشويق مكتمل ولا وقفات عند نهاية كل حلقة تجعلك تتلهف لمعرفة ماذا سيحصل في الحلقة المقبلة وهذا ماكان ينقص النص مع العلم أنّه بلا منازع نص متين إلى حدٍ ما ومحكم السرد بدقة عالية والنص هو عماد أي عمل.

فلم يكن التشويق هو العامل الاساسي للنص بل كانت المنافسة على الشخصيات لمعرفة ماهيتها، فصوت خياط القوي وإيماءاته وملامح عمايري وتعابيره ونظراته وانحنائه شخصيتان دفعتا المتلقي للإحساس بكل شخصية، وإجباره على أن يكمل ما يشاهده .

أما في الحلقتين الأخيرتين هنا نجد كل أجوبتنا المبهمة والذهول من هول ما نراه، وهذا تتويج للحلقات الست الأولى بحلقتين تلخصان كل ما جرى بطريقة غير مألوفة مبتكرة وذكية وليست رائجة من قبل في الدراما السورية أو العربية.

ما بين الشخصيات

الأحداث بالمجمل لا تنقل فقط الواقع بقدر ما تحاول الإشارة إلى هويته وزمانه وقد نجحت في ذلك أما الرسالة الحقيقية من القيد المجهول نجدها في عقدة القصة وختامها.

لدينا شخصية بسيطة مسحوقة تدعى “سمير” وهي الفئة الغالبة من الشعب بكل أطيافه و “يزن” صديقه الذي يمثل أفكار ورغبات “سمير” المكبوتة المدفونة بالتالي “سمير” و “يزن” كما دمية الماتريوشكا كل منهما يوجد داخل الآخر.

“يزن” هو السبيل الوحيد أمام “سمير” ليرتفع عن سطح العدم، يسافر عبرها ليحصل عن ما يجول بخاطره، “يزن” هو الأمل .. وحش يعده لكنه ينكر وعده في اللحظة الأخيرة والحاسمة.

لو ركز أي واحد منا سوف يشاهد “يزن” يمثل السياسة التي تتبعها فئة المجرمين مع أمثال “سمير” يعني “يزن” عبارة عن العلاقة الكائنة بين “سمير” من جهة تلك الفئة المتورطة من جهة أخرى والتي يقف على رأسها الدكتور “حسان”.

بالإضافة طبعا لشخصية النقيب الضابط الذي يبحث عن الحقيقة، وهذا هو صوت الحق غير المسموع وذلك لأنه صوت ضعيف وخافت أولاً ولأنه لا يقف في جهة محددة ثانياً، فنجده ساعة يحيد لطرف فلان وساعة لطرف الدرويش وتارة يقف ضده ومرة أخرى يتعاطف مع أحد المتهمين أو قد يقدم تقريره حتى لأحد المتهمين بدل رئيسه ورغم سريته وكثيراً ما يستخدم أساليب مواربة مجتهداً ومجاهداً وهكذا حتى يصل متأخراً، لأنه في الحقيقة هذا الصوت غير مسموح به وربما يتم تحريكه و توجيهه كجندي أعمى.

كل هذه الشخصيات و غيرها تدور في دوامة واحدة كلها بشكل أو بآخر نتيجة أو صورة للثقافة التي أصبح يحملها المكان وصقل بها المجتمع بسبب صراعات و أحداث وربما حروب قد حصلت، أما النتيجة منها وهذا ما رأيناه صورة عن مجتمع مشوه مريض جاهل ومنبوذ من غيره وفاقد لثقته بنفسه عبر هوية ضائعة بلا ملامح والقليل من الهوامش للإشارة عن الحرية المعدومة مع الكثير من المكبوتات كأي رغبة و كأي حلم ثم مكان مخيف في بلد منهك.

المرض النفسي

في التشخيص الطبي و هذا ما نتج من كل ماذكرناه نحن أمام مشكلة واقعية حقيقية والإشارة إليها مجدية بلا شك، “إضطراب الهوية التفارقي”هذا التشخيص الطبي أو التعبير المجازي لحالة الانسان السوري في واقعنا فهو يفتح الأعين على الكثير من أبناء الشعب بعد عشر سنوات من الحرب، الخوض في الأمراض النفسية وخصوصاً تعدد الشخصيات أمر في غاية الاهمية ويوجه رسالة واضحة للتوجه إلى العلاج النفسي وهذا ما تفتقره شعوبنا العربية بنظرة سلبية.

من الواضح أن فريق العمل وعلى رأسهم الكاتبان لهما غاية وفكرة محددة فعمِلا على طرحها بالطريقة الأمثل متناولان جواهر الأمور ومبتعدان عن التفاصيل الهامشية ثم جاء استفزاز المشاهد ودفعه كي لا يطلق حكم مسبق وانحيازي، أسلوب غير رائج في الاعمال العربية إلا القليل وهو الأمثل ومناسب ليتلقاه المشاهد بسلاسة من أي بلد أو ثقافة مختلفة كانت حول العالم العربي, أما إذا انتقلنا للجانب الآخر من الأعمال العالمية فشاهدنا العديد من الاعمال الاجنبية وأقربها لقيد مجهول هو فيلم fight .club

وأخيراً لا نقول أن العمل خالي من الأخطاء تماماً ولكن تغفر هذه الاخطاء أمام هذا الابداع، فطرح موضوع له علاقة بالمرض النفسي هو نقلة مفصلية في العمل مع الافتقار لمُشاهد مدرك أنه أمام شخصية مريضة بمرض غير مألوف لدى مجتمعاتنا أي أنه كان بالإمكان التوضيح أكثر من خلال مشهد الاستيقاظ في التاكسي كي يدرك المتلقي الفحوى منه.

من ناحية أخرى كان لا بد من التوجه لطريقة اخرى غير التي اتبعها الكاتبان والمخرج كأن يختار “يزن” غير الصائغ لبيع الخاتم وهل هناك محل مجوهرات بدون كاميرات ؟؟ وهذا ما ساهم في تسهيل عملية البحث عن “يزن” فنياً، ثم لم نشاهد أي عملية رسم للسارق يزن فهل هناك تحقيق و بحث جنائي دون رسام؟؟

في الحلقة الأخيرة كان من المفترض أن نرى الشرطة تطارد شخصية مبهمة وليست شخصية “يزن” بعينها، كما أننا في ثماني حلقات لم نتلقَ أي اشارة للطفة ملك عن سرقة المال وهي بهذا العمر إلا إذا كانت القصة في سياق جزء ثاني يكمل أحداث مبهمة عن مصير سمير ومنال وملك.

بطاقة شكر

  • باسل خياط النجم الساحر ابن الفن الراقي والنقي الذي أثبت لنا أن الفن ليس حالة من الرغبة وحسب بل هو خوض في لب المعرفة و تمرين قاسي على الذات.
  • عبد المنعم عمايري المبدع والمتقن والحرّيف الذي جعل المتلقي منهمك في تلقي المعرفة ومندهش في الأداء.
  • نظلي الرواس خارجة عن التأطير و العبث في الشخصيات كأنما كانت هي منال وليست مجرد شخصية.
  • لكل العناصر الفنية من إضاءة و تصوير و إخراج و موسيقى تصويرية وبالمجمل سينوغرافيا متقنة ومبهرة .
  • لصائغي نص كثيف الملامح مكتوب بحرفية عالية ومخرج ينتظر منه خطوات قادمة بذات المستوى ومنتج سوري خاض التجربة وكانت بحجم الرهان.