لعبة نيوتن.. حيث أجدنا اللعب دون رهان

بقلم: أنس فرج

لربما تسحرك الدراما في كونها فن تلفزيوني يعيد رسم الواقع بكاميرا تلتقط المشهد وترويه من جديد، أحياناً تذوب وتسرقك الحكاية إلى عالمها وأحياناً أخرى تنفر، تقترب من المغادرة ثم تبتعد، تصيبك الحيرة في متابعة المشاهدة وقد تسأل ما المغزى مما شاهدت؟ وفي عُرف الصناعة الدرامية كلّ ذلك جائز طالما الدراما خيال وليس من واجبها أن تقنعك بصدق ما تشاهد، الحكم في النهاية لك.

لكن ماذا لو سحبك مسلسل درامي إلى بيئته وصنع داخلك عاصفة من المشاعر المتناقضة تجاه أبطال الحكاية، وصرت دون ضبط لشعورك تعيش في منازلهم وتلهث مع إيقاع حياتهم وتصطدم مثلهم بما يعانون.

“لعبة نيوتن” فعلَ ذلك وطوّع قوانين الفيزياء الحركية لصالح قصة درامية عن أشخاص يتحركون، يؤثرون ببعضهم، ويغيرون مسار حيواتهم كفعل ورد فعل مستمرين حتى التوازن من جديد.

ولعلّ المسلسل الدرامي الذي ألفه وأخرجه تامر محسن شهد عشرات بل مئات التحليلات ووجهات النظر في مواقع التواصل الاجتماعي والمواقع الإخبارية، فوقع الحجر في مكانه الصحيح في بركة المياه وحرّك أفكار المشاهدين كدوائر متداخلة مع كل حدث يتصاعد تلو الآخر.

حتى بات السؤال في جدية أن يكون صناع العمل بالعمق الذي وجده الجمهور، أم أنهم آمنوا بالحكاية وتبنوها فذهبوا لذاك العمق الشديد دون أن يدرون.

فالمختلف في “لعبة نيوتن” لا يكمن في الحبكة التي باتت تستقى عالمياً من أعمال متناقلة عبر المنصات ومستنسخة في غالبية الأحيان، بل في تخطي ذلك لتغييب قوة الحدث أمام آثاره وانعكاساته النفسية على الذين وقع عليهم، لذا كانت الحلقة تفتتح في مشهد ينبئ بلحظة الصراع القادمة، ثم الانطلاق بعد شارة البداية لعرض ما قبل الحدث وما الذي أوصل إليه، ومن ثم عرض نتائجه وقدرته على تغيير أفكار الواقع عليه أو دفعه لاتخاذ قرار مختلف، وهنا بدَت “هنا” بطلة العمل الرئيسية متلقية تتفاعل مع الحدث عبر  الخروج من شخصية لأخرى، فكل عقدة تواجهها ستجد لها حلاً لكنّ الثمن هو وقع الحدث على “هنا” والتغيير الذي سيصيبها بسببه.

قد تكون “هنا” شخصية صعبة التواجد على أرض الواقع، لكّن الحرفة في يد النجمة منى زكي أنّها ألبست “هنا” المزيفة ثوباً واقعياً نضراً حتى في أحلك الأوقات، فكانت كمن تمر على فصول السنة الأربعة فتأخذ من كلّ فصل ملمحاً جديداً تواجه فيه تبدل الطقس “المحيط” وتتكيف معه حتى العبور نحو فصل جديد.

وهُنا يحضر الأداء كمحصّن للشخصية وضابط لعدم انفلاتها، فلا يمكن أن نغرق في حب “هنا” وننسى اللعبة، ولا أن نكره “هنا” ونمّل من اللعبة، فاللعبة هي المحرك و”هنا” هي اللاعب الذي غدا في مكان ما المشاهد ذاته، وكأنّ الضمير الحي أو القلب الطيب أو الرأي الحكيم هو ميزة تنتقل بين بطل وآخر يتجرد فيها بلحظتها من قناعه في مواجهة الحياة ويطلق الغمار لسحر أداءٍ آسر جاء عبر سيد رجب ومحمد ممدوح ومحمد فراج وعائشة بن أحمد ومايان السيد وآدم شرقاوي.

لماذا لعبة نيوتن؟

لأن الدراما تتفوق حين تصنع المتعة، وتبهر حين تطرح الأسئلة بذكاء ولا تظهر الأجوبة بشكل مباشر وساذج، فإذا توافر الشرطان السابقان معاً يعني أنّك لن تقف أمام حكاية مليئة بالألغاز دون أن يسرقك المكان كما لغة الجسد وطريقة تنفيذ المشهد وأثر الموسيقى في صناعة الإيحاء المطلوب.

هُنا تحضر موسيقى تامر كروان بمزاجٍ مدروس يلهب تفاصيل الحكاية، وتتحرك كاميرا تامر محسن كحركة الطفل إبراهيم بطل الحكاية في الحبو والسير والقفز، فتمزج الإيقاعات الهادئة مع الصخبة، المرتبكة مع السلسة في انتقال بصري من مرحلة لمرحلة يجعل كل واحدة تؤسس لمقوماتها في ذهن المشاهِد وهو يحفظ تفاصيل الأمكنة ويرتبط معها عاطفياً دون أن يشعر.

الحكاية انتهت واختلفت وجهات النظر حول طريقة تنفيذها بين من رأى فيها وعظاً لا ينسجم مع أفكار العمل، ومن اعتبرها مغلقة لا تبعث على التشويق والاحتمالات، ومن وجد في خطها البياني انكساراً حاداً في الحلقات الأخيرة لا ينسجم مع نسبة التشويق العالية التي تصاعدت مع الحلقات تدريجياً.

والاختلاف طبيعي طالما ننظر إلى النهاية على أنّها المغزى ونتيجة لكل ما مر به الأبطال من تخبط على مدار المسلسل، في حين يقول منطق اللعبة أنّ الكرات مهما اهتزت ستصل إلى مرحلة التوازن، هي لا تستطيع الانفصال عن بعضها نهائياً لكن الاحتكاك قد وصل إلى نهايته الصفرية بعد اهتزازٍ حرّك كافة الكرات.

وبين منطق اللعبة ومنطق الدراما، والمهاجم والمدافع، والناقد والمنتقد، والمتقبل والرافض، يبقى “لعبة نيوتن” مسلسلاً خرج من قالب التريند المصطنع إلى صناعة حالة تريند حقيقية رافعاً سقف المشاريع الفنية إلى درجات عالية بينه وبين أي مسلسل يوضع بجواره في موسم 2021، مثبتاً أنّ العمل الناجح يصل دون تهليل وترويج لعدة أشهر، دون صور وكواليس ومؤتمرات، دون مشاكل بين الأبطال وشارة تسويقية وتصريحات لاذعة وبهارات عن اختلاف الحكاية وفرادة الأداء.

قد يتعثر أبطال العمل في العثور قريباً على حكاية تضاهي اختلاف “لعبة نيوتن”، لكّن من الصعب بل الصعب جداً أن ينسى الجمهور “هنا” و “حازم” و “مؤنس” و “بدر” و “أمينة” و “شمبا” و”بيغ زي”.