رغدا الشّعراني: الحالمةُ بمسرحٍ يُشبهُنا..

بقلم: جواد البعيني

عن تجربةِ رغدا الشّعراني في المسرحِ السّوري كتابةً وإخراجًا.

“شوكولا”… 2006

كان استعراضاً للأعماقِ البشريَّة في زِحامِ عرضِ الزّيف، وذلك عبرَ ستةِ شبانٍ تربِطُهم صداقةٌ منذُ الطّفولة، فاجتمعوا في صالةٍ لعرضِ الأزياء للاحتفالِ بعيدِ رأسِ السَّنة، بدأَ ال(show) كاشفًا عن همومٍ صغيرة لكنَّها تحمِلُ مضامينَ خطيرة، فتحوَّلَ الاحتفالُ إلى بوحٍ حميميٍّ على لسانِ الشّخوصِ السَّتة. بمونولوجاتٍ تفكِّكُ الزّمن، الصّورة، الحنين، اليأس، الذكرى، كان عرضاً ملوَّناً بروحِهِ الشَّبابيَّة، بلا سينوغرافيا ضخمة، الممثلون هم عماد الفرجويّةِ بمنطوقٍ يحملُ المعاني والدلالاتِ المرادُ إيصالُها في فضاءٍ مسرحيٍّ خالٍ إلّا من شاشةٍ تعرضُ صورةً حيَّة لما يجري على الخشبة من زاويةٍ تلائمُ لحظةَ الكشف وذلك للوصولِ بتعابيرِ الممثلين وإيماءاتِ أجسادِهم إلى ما يوازي البوحَ البصَريّ، لتكسِرَ الموسيقا الكلاسيكيَّة لموتسارت وموسيقا الجاز شَجن البوح الذي عرَّى الواقعَ الاقتصادي، السّياسي، والجنسي بتفاصيلِ حيواتٍ مُستهجَنة رغمَ عيشِنا فيها. في النهايةِ يأتي صوتُ رغدا الشعراني كاتبة الـshow ومخرجته ليعلنَ أنَّ كلَّ ما شاهدناه هو “بروڤا”! 

لتقولَ بكلمتها على بطاقة العرض: “أحيانًا ودون قصد… ومع تسويف الأشياء والقرارات والمشاعر والكلمات يرحلون دون أن نقولَ لهم ما كان يجبُ أن نقول… تمنّيتُ لو قالَ لي أحدهم تعاملي مع الآخرين كأنّهم سيرحلون غدًا…”

حصلَ “شوكولا” على جائزةِ أفضلِ عرضٍ مسرحيّ في مهرجانِ القاهرة للمسرحِ التّجريبي في دورتِهِ التاسعة عشرة.

تيامو… 2009

تدابيرُ قدرِ الشّعراني أضحكَتْ شكسبير فهي من أوقعَتْ هاملت بحُبِّ جولييت وروميو بحُبِّ أوفيليا.

بمزجٍ غرائبيٍّ اختارَتْ رغدا الشعراني مسرحيتَي”هاملت” و “روميو وجولييت” اللّتان تتحدثان عن الحُبِّ والقدر، فكان القسمُ الأول منَ العرضِ واقعاً كلاسيكيّاً وسرداً تاريخيّاً لهاملت وسعيِّهِ للانتقام من قاتلِ أبيه، وحزنِ روميو ومحاولاتِهِ البائسة للوصولِ إلى جولييت، ثم حقَّقت الشعراني أمنيتَها بتوليفةٍ حوَّلَتْ هاملت الذي شُفِيَ من عُقدةِ الذنبِ والانتقام إلى عاشقٍ يلهثُ وراءَ جولييت، وروميو السّاعي لكسبِ ودِّ أوفيليا، حتى والد هاملت الذي قُتِلَ في مكيدةٍ طمعاً بالزوجةِ والسّلطة كان يعاني الوحدةَ في ملكوتِ السَّماء ويطلبُ من ابنِهِ حبيبةً تؤنسُ وحدتَه! بأسلوبٍ ساخرٍ يعتمدُ على المفارقات كسرَتْ رغدا الشعراني الأجواءَ التراجيديَّة وخشبيَّةَ المسرحِ الكلاسيكي، مستعينةً بكلِّ أنواعِ الفنون فشاهدنا الرّقصَ الشّرقي، الفلامنغو الإسباني، الفلكلور الجبلي، بمستوياتٍ بصَريَّة متنوِّعة دمجَتْ بها السينما والمسرح عبر شاشاتٍ يخرجُ منها الممثلُ إلى الخشبة والعكس، ومؤثِّراتٍ سمعية بصَريَّة تجذبُ المُتفرِّج وتخدمُ تقلُّبَ الأمزجة في العرضِ دونَ إبهارٍ بصري مجّاني، ليكونَ الحُبُّ هو الثيمة الأساسيّة لهذا العمل.

من كلمةِ المخرجة في بطاقةِ العرض

“كنْتُ أكتبُ وأكتبُ هرباً منَ الوقت وأنا لا أدري والآن أكتبُ خوفاً من هربِ الوقت وأنا أدري.”

لحظة…. 2010

لعبةٌ بينَ الخيالِ والواقع، بينَ الحُلُمِ والحقيقة.

مجموعةُ منَ الشَّباب يسعون لخلقِ التَّجانسِ والتَّفاهمِ فيما بينهم، بمزجٍ مقصودٍ بينَ السّردِ الروائي البصَري وفنِّ الحكواتي، وإيقاعٍ مشدود لا تراخيَ فيه، مُستخدمةً الفوتومونتاج الذي أدخلَ المُشاهِدَ برؤى الأحلامِ والخيال ليوقظَنا بعدها المشهدُ المسرحيّ ويعيدنا إلى الواقع، وبتداخلٍ فنّيٍّ متناغم بينَ الرقصِ والزجلِ وكوميديا الfarce جاءَ هذا العرضُ ليكثِّفَ جدليَّةَ تواترِ الموتِ والحياة، وبلوحاتٍ تحملُ أسماءً: (جزء الرقم، جزء الروح، جزء الجسد، جزء الرؤية والذاكرة، جزء الصوت والكلمة) دعتنا كاتبةُ العمل ومخرجتُه إلى اقتناصِ لحظاتِ الحُبِّ والفرح وعيشِها بصدقٍ، فاستطاعَتْ بذلك محاكاةَ جيلٍ شاب كرِهَ الخطابةَ المَتحفيَّة واللُّغةَ الصّارمة، لتكونَ هذه الدعوة هي الضلع الأخير في مثلثِها المسرحي التَّجريبيّ الذي حقَّقَ المتعةَ والجذب.

فكانَتْ كلمتُها على بطاقةِ العرض: “هل يمكنُ أنْ نعرفَ الحقيقةَ منَ الوهم.. الواقعَ منَ الحُلُم.. الموتَ منَ الحياة.. الخيرَ منَ الشّر.. هل حقّاً في كلّ بياضٍ نقطةٌ سوداء وفي كلّ سوادٍ نقطةٌ بيضاء.. أسئلةٌ وأسرار ترافقُنا ولا نجدُ الوقتَ في هذا العالمِ المجنون وللحظةٍ لنفكِّرَ بسرٍّ واحدٍ من أسرارِ الكون…”

فنانةٌ واثقةٌ تعلَّمت القواعدَ فكسرَتْها بتجاربِها المسرحيّة، رافضةً المألوفَ الذي أبعدَ الشَّبابَ عن المسرح وتلقَّت الكثيرَ منَ الانتقاداتِ والأحكام من مؤيدي طقوسيَّةِ المسرح والمقولاتِ الكبرى فيه، فكانَتْ بنظرِهم تتوسَّلُ الجماهيريَّة على حسابِ القيمةِ الفنيَّة، لكنَّها استطاعَتْ بعروضِها أنْ تحوِّلَ مَقصِدَ الشَّباب من قهوةِ الروضة إلى مسرحِ الحمراء، وحشدَتْ حضوراً لم يكنْ متوقّعاً لمسرحٍ أصابَ شرايينَهُ التَّصلُّب ومقاعدَهُ التكلُّس. فنانةٌ سوريَّة جسَّدَتْ بأدواتها التمثيليَّة ورؤيتها الإخراجيّة معنى أنْ يكونَ الفنُّ مرتبطًا بالحياةِ وليسَ صورةً عنه، فكان لصوتِها في الدوبلاج وقعاً يتركُ أثراً جميلاً، كأدائها السَّلس لفاطمة التغلبيّة أخت الزير سالم وخِفَّةِ ظل “سلوى” في بطل من هذا الزمان، والعاطفة الصّارخة التي أوصلتها بعيونٍ تبنَّتْ دور “وفاء” الأم البكماء في أمهات.

وفي يومِ المسرحِ العالمي؛ مسرحُنا ليسَ بحاجةٍ لمن يطفئُ شمعتَهُ احتفالاً به ويلقي فيه الخُطَبَ المُزخرَفة بل بحاجةٍ إلى مغامرين يبثُّون فيه روحَ العصر لو كان ذلك على حسابِ وحداتِهِ الثلاث لكي لا يبقى بسُباتِه وثَباتِهِ وحيداً.