بعد الخفوت.. خطوة متزنة للدراما المشتركة في «دفعة بيروت»

بقلم: جواد البعيني

بإنتاج ضخم وعلى مدار ثلاثين حلقة تروي لنا الكاتبة الكويتيّة هبة مشاري حمادة حكاية من الزمن الجميل تدور أحداثها في ستينات القرن الماضي، أبطالها مجموعة من الطلاب العرب جمعتهم بيروت في جامعتها الأمريكيّة، تفتتح الكاتبة كلّ حلقة بمقدمة سرديّة عميقة التوصيف مُهيّئةً بها المتلقّي للاستمتاع بقصصٍ عن الحبّ، الدّين، السّياسة، الانتقام، عُقد الطفولة، العرقيّة والطبقيّة، نسجها لنا بصريًّا المخرج البحريني علي العلي لينقلنا إلى زمن الاختلاف والتغيير، الإيمان بالحلم وتحقيقه، فكانت كوادره آخّاذة، بلونيّة تعيد لعينك الصفاء المسلوب برماديّة واقعنا المشوّش.

دُفعة عاشت الرواية السياحيّة لبيروت على حساب روايتها السلاحيّة والفكريّة في جامعة تخرّج منها جورج حبش ووديع حداد كما درّس بها أحد إيديولوجيي القوميّة العربيّة قسطنطين زريق.

خطوط درامية أبعد من الطرح المباشر

كلّ الخطوط الدراميّة في هذا العمل تلعب على وتر النوستالجيا العاطفيّة وزمن الطيبين وذلك في حقبة كانت فيها بيروت مدينةً ثائرةً على السائد باستقطاب كلّ ما هو جديد، فكان دورها بارزًا في احتضان الهامش الثقافي العربي المتصارع مع شتّى أنواع السلطات السياسيّة والعشائريّة، لكنّ القوة المحرّكة لاحداث العمل حوّلت هذه المدينة من ميدان جامع لكلّ باحث عن الحريّة والحياة إلى حديقة تجمع العشّاق العرب، ولولا بعض الإشارات الخجولة والتي لم تعطِ الرواية السلاحيّة والفكريّة حقّها في تلك الحقبة، لكانت نهاية العمل واثبة محكومة بالحتميّة التاريخيّة المطلقة.

سيناريو رشيق ومزخرف معاً

في عمل مبني على جدليّة عالية ناتجة عن التّصادم بين الحضارات والمرجعيّات الدينيّة والسّياسيّة، فضلًا عن العلاقات الإنسانيّة المعقّدة والتابوهات العربيّة، استطاعت الكاتبة حياكة حبكتها بنظام خطي منضبط تتخلّله التّناوبيّة لتأزيم الخطوط الدراميّة بإيقاع حقّق المتعة والجذب على حساب الخيال، فتجد دومًا الشيء وعكسه في البناء الدرامي لهذا العمل: تلقائيّة الحدث وافتعال لآخر، حوارات رشيقة تتناسب مع منطوق الشخصيّة وأخرى مليئة بالزخارف الملائمة للمقولة التي تريد الكاتبة إيصالها بعيدًا عن واقعيّة الطرح.

فكانت قاعة الحقوق حاضرة على الكثير من الصراعات الفكريّة (علمًا أنّ هذا القسم غير موجود في الجامعة الأمريكيّة منذ تأسيسها حتى اليوم)، صراعات دراميّة تحقّق للمُشاهِد المشاركة الوجدانيّة وأخرى تبعده عن الامتزاج الوجداني معها، شخصيات ناميّة كانت الطاقة الدافعة التي تُحلّق حولها كل عناصر السّرد و تحتوي بداخلها على بذور الصراع بما يتلاءم مع تاريخها ودوافعها، وأخرى سكونيّة حقّقت الالتحام العضوي بالحبكة والارتباط بالحدث حد الالتصاق به  فأعطت للقصة بعدها الحكائي، وثالثة جامدة التكوين تنتمي إلى الخطاب المراد توجيهه وليس إلى الحكاية.

كما حضر تقديم الاختلاف والعادات والتّقاليد بأسلوب السهل الممتنع بإيفيهات عفويّة يقابلها تصدير لبعض المقولات بقالب مَتحفي وإسقاطات دخيلة تخدم الفكرة الأساسيّة للكاتبة وهي “التعايش” ولكنّها لم تخدم السياق الدرامي الواقعي، بل أسقطت بعض مفاصله في فخ التكرار والملل فكان لبعض النهايات ولحظات الكشف حلولًا دراميّة سريعة بُنيت على عجل دون الأخذ بعين الاعتبار مفهوم السّببيّة والتسلسل المنطقي المتبع في حلّ العقدة وصولًا إلى الحل.

رؤية إخراجية مختلفة

بتقطيع مُنصِف رصد المخرج علي العلي انفعالات الممثلين، وبرؤية إخراجيّة أمينة وزوايا تصوير مدروسة، نقلت لنا عدسته فضاءً فنيًّا حرًّا غير مُقيَّد حاملًا معه إحساس الكاميرا وحركتها العفويّة فكانت الصور تنساب بسلاسة إلى عين المُشاهِد بإضاءة احترافيّة تاركةً انطباعًا ساحرًا، هادئًا، بلا شوائب استعراضيّة، وأضاف الموسيقي المصري أمير هداية إيقاعه بعلامات موسيقيّة

مرورًا بالملابس التي تحاكي موضة تلك الحقبة، وقد أبدى الستايلست من خلال تصاميمه اهتمامًا واضحًا بالأنظمة والعلاقات اللونيّة في دولاب الألوان مستخدمًا في كثير من الأحيان نظام التكامل اللوني المباشرعلى سبيل المثال لا الحصر (بنفسجي وأصفر) وكذلك الألوان المتوافقة مع اللون المكمِّل فمثلًا (درجتين من اللون الأخضر مع اللون الزهري) حيث تعتبر هذه الأنظمة هي الأكثر جذبًا للنظر نتيجة التضاد اللوني.

انتهاءً بتصفيفات الشعر واللحية والشارب التي أكملت البناء الدرامي الخارجي لبعض الشخصيّات على الصعيد الشكلي.

نجومية اختمرت فأبدعت

بنضج فنّي ونجوميّة اختمرت على مهل سخّر الممثل السوري محمود نصر أدواته التعبيريّة ليكون بها مشعلَ العمل من ألفه إلى يائه. أما مُبارك الدُفعة ومنقذها كان بأدائه نيردًا جعل للصفر قيمة ببحثه واجتهاده فقدّم الكويتي حمد أشكناني شخصيّة “مبارك” مريض التوحُّد وعبقري الرياضيات بحرفيّة عالية وبلغة الأرقام هندسَ شخصيته بتبنّي داخلي وراكور حسّي ثابت على مدار العمل.

في فلك شخصيات الدفعة

كان لكلّ شخصيّة دوافعها ومساحتها الخاصة التي يستطيع الممثل أن يلعبَ ضمنها، فمنهم من أدّى وأطرب ومنهم من لم يخرج عن نوطته ولكنه لم يفرّد، والجدير بالذكرعفويّة وخفة ظلّ الكويتيّة لولوة الملا، الثبات الانفعالي المؤثّر للعراقيّة روان مهدي، الحضور اللافت للمصريّة نور الغندور والأداء باللهجتين الكويتيّة والمصريّة بما يتناسب مع تاريخ الشخصيّة، اللّعب السّلس للبحرينيّة نور الشّيخ على الرغم من بعض المبالغة والمونوتون، كاريزما العراقي ذو الفقار خضر، اللبناني وائل منصور بأداء الشخصيّة الخيّرة، ردود أفعال الكويتيّة فاطمة الصفي الصادرة عن الذاكرة الانفعاليّة لطفلة تمّ التحرّش بها، الانطفاء وفقدان الرغبة الناتج عن التهميش والظلم في أداء الكويتيّة ليالي دهراب.

اللهجة الفلسطينيّة المُتقنة بأداء السوريّة مروة الأطرش، السوري أنس طيارة والتقلبات النفسيّة المبرّرة لشاب طيّب دفع مشاعره ثمنًا لأخطاء أخيه، كما تمكّن الكويتي علي كاكولي من البحث والعثور على مفاتيح شخصيته فترك بها بصمته الخاصة، أما عن الأدوار الدخيلة كدور السوريّة يارى قاسم ودور البحريني خالد الشاعر والكويتي يوسف البلوشي، فغياب هذه الأدوار في ظلّ تناثر الخيوط الدراميّة وقصص الحبّ الفائضة ما كان ليترك فجوة في حبكة العمل.

بين.. بين

بين الإجحاف بحقّ هذا العمل وإنصافه تقف بيروت حائرةً بدُفعتها بين عين أنصفتها إخراجيًّا وورق بالغ ببلاغته في بعض المشاهِد حتى جرّدها من نهجها، فعندما يُقحِم الكاتب كلمةً ويتلقاها المخرج كما هي وينفّذها بصريًّا حتمًا سيصدرها الممثل بلا تبنّي وهكذا يتحوّل المشهد المعاش إلى مشهديّة سرديّة يُطلَب فيها من المُشاهِد التخزين أكثر من الاستيعاب، فبين صناعة الدراما والتجارة بها أمسكت هذه الدُفعة العصا من المنتصف لترضي بذلك ذائقةً اعتادت على الدراما المقتبسة والمدبلجة وأخرى تنتظر الخطوة الأولى المُتزنة للدراما المشتركة (بان آراب) بعد الكثير من الحَبو.