كثيراً ما تتعدّد أوجه الثّقافة التي تحكي الكثيرَ عن تفاصيل الشّعوب، فتعبُر بنا نحو أبواب منازل لا نملك مفاتيحها، نجهل تفاصيلها، منازلٌ مملوءة بقصص مذهلة، وحكايا آسرة، فتأتي الدراما لترفعَ بأدواتها الغطاءَ عن وجه العروس، حاملةً معها شغف المشاهد بالمعرفة، معرفة وجه مجتمع لديه الكثير ما يحكيه عن ثقافته الخاصّة.
ولا شكّ أنَّ المطبخ يشكّل جسراً بالغ الأهميّة في نقل الثّقافة بين البلدان، ممّا جعل الدراما تستثمر بهذه الأداة الثقافيّة لتصوير المجتمعات، ومن هذا المنطلق قام الكتّاب بتقديم أوراقهم لمطبخ الدراما، لنجدَ أنفسنا أمامَ أعمال غرّدت كلُّ منها على حِدة، أعمال رسمت على ثوب المطبخ موضوعات متنوّعة تحمل رسائل وأهداف في كلّ عمل لها، فماذا حملت لنا الدراما على موائدها.
كانت المائدة هنا، في مسلسل “عصيّ الدمع” تقدّم الموسيقى في صحونها، عبر نقاشات رشيقة تدور بين عازف الكمان “جهاد عبدو” و مجموعة من الأصدقاء الشغوفين بالموسيقى العالميّة عقب كلّ حفل موسيقي، فحرصَ “حاتم علي” أن يصنع مشهداً يتكلّم فنّاً، ليفتح المجال للحديث عن أعظم السيمفونيّات في التاريخ، فأضاءت المائدة بشموعها حياةَ أعظم موسيقيّي العالم، فكانت منبراً للحديث عن الفنون وارتباطها زمنيّاً بالحروب التي توالت على منطقتنا. وحكت عن علاقة الموسيقى بالحياة، كأن تمنح هذه الموسيقى فرصةً لإنسان بالبزوغ في سماء الفن، كسرد القديرة “منى واصف” سيرة حياة
“الستّ أم كلثوم” على الموائد، بمحبّة وود، فأخبرتنا عن علاقة الشّيخ “أبو العلا محمد” بالستّ أم كلثوم، الذي أطلق العنان لموهبتها، من قرية صغيرة في ريف مصريّ إلى كوكب من الفنّ، هنا الدراما تمكّنت أن تكون وسيلة حقّة لتثقيف المشاهد موسيقيّاً، بمادّة بصريّة ثريّة بمحتواها وذكيّة بطريقة طرحها.
حول طاولة مستديرة يملؤها الحبُّ قبل الطعام، تجلس عائلة “الفصول الأربعة”، تلك العائلة الخالدة التي تشغل زاويةً في كلّ بيت من بيوتنا، وكأنّها صورة عائلية على جدار، تطرح هذه العائلة نقاشاتها الدافئة على أنغام أسطوانة “ليه يا بنفسج” للقدير “صالح عبد الحيّ”، فصوّر العمل أهميّة أن تجتمع عائلة بدفء المكان عبر زوجين ماهرين في فعل ذلك، زوجين كالقديرين “خالد تاجا” و”نبيلة النابلسي”، اللذين شكّلا أنموذجاً مثالياً في تكوين العائلة عبر أدائهما المبهر، فتشاركنا عائلتهما ضحكة لا همَّ يضاهيها.
وفي هذا المقام، فإنّ الدراما تكشّفُ قدرتها هنا على نثر مشهد على الشّاشة، على شكل لوحة جماليّة، لتعرّفَ بأهميّة العائلة في النّفس الإنسانيّة، بالإضافة إلى شدّها وثاق العائلة في قلب المتفرج.
على أضواء الشّموع، التي رافقتها روائحُ الورد المخمليّ الأحمر، أجلست “ريم حنّا” امرأةً “كسلافة معمار”على سفرة وسيمة، كأمراة ماسيّة الجسد، مزجت جمالها بمذاق أطباقها، لتصنع لوحة “امرأة كالقمر” بالتشارك مع “قيس الشيخ نجيب” فصوّرت هذه اللوحة قدرة “سلافة” على الموازنة بين الامرأة كعاملة والامرأة كملكة منزلها، فتزدانُ المائدة جمالاً في هذا الموقف مع نقاشات الشّعر والأدب، ليشكّلان هي وقيس حالة لا تنسى من الجمال الأدائي، فتستحضرُ الدراما ضيوفها من الزّمن الجميل كتشيخوف وجرير، ليجلسا معهما بنتاجهما الثقافيّ على طاولة واحدة، في لحظات من الوسامة البصريّة التي لا حدودَ لها.
تاريخيّاً، كثيراً ما ربط المجتمع الإنسانيّ المرأةَ بالمطبخ، حتى نعته البعض “بمملكة المرأة” في إشارة لدورها المقتصر على القيام بالأعمال المنزليّة، مبعداً إيّاها عن امتهان الطبخ كمهنة، رغم براعتها في هذا المجال، وغافلاً دورها المهم الذي يمكن أن يُرصدَ لها إن سمحت الظروف.
دراميّاً، كتبت “دلع الرحبي” لتسقط هذه النظرة العالميّة على مجتمعنا العربي، فبرعت من خلال نصّها في تهيئة شخصيّة “رزّة” بأداء “شكران مرتجى” لتصوّر هذه الشخصية حال المرأة العربية وطريقة تعاطي المجتمع معها، لتشعرنا أثناء متابعة هذا المشهد، وكأننا أمام مشهد حيّ في أحد مطابخ بيوت دمشق، فنكون كمشاهدين أمام تساؤل حول دور الدراما في تعزيز هذه النّظرة في عقل المشاهد، لتجعلل من هذه الصورة حقيقةً لا مفرّ منها، أم أنّها سعت لمعالجتها دراميّاً.
اليوم، يضعنا الواقع المجتمعي عند مفترق طرق، أهمّها أن نضع أنفسنا أمام عدة تساؤلات، بل ربّما مطالب، في أن نرى دراما تنتصرُ لنصفها، للمرأة، وذلك بتصوير إعادة هندسة الأدوار الجندريّة في أعمالها، ربّما لتهيئة مجتمع دراميّ يؤمن بالتغيير.