«العميد»: عاد «تيم» ولم يغِب «جبل»!

هو المسلسل الأول الذي يخرج تيم حسن من نطاق العمل الثلاثيني، هذا ليس الموسم الرمضاني وأنت لست على شاشة التلفاز. أهلاً بك في “العميد” على منصة “شاهد”.

حين نفكر لماذا نبني حكاية درامية، تأتي الفكرة من خضم أفكارنا التي تحيط بنا ونتلقاها لنصنع من الفكرة مسلسل، ولكن كيف نعبّر عن فكرة قابلة للتسويق أمام حيتان الإنتاج الذين يفرضون توجهاً عاماً للأعمال المنتجة في سوريا ولبنان تحت اسم “فورمات”.

هكذا انتقت المنتجة مايا حبلي القادمة من سلك المحاماة فكرة ليست بالبعيدة عن واقع نعيشه أمام أعيننا، فإذا ما هربنا منه طالعنا في نشرات الأخبار، ليأتي الفن ويمارس الدور الأخطر ربما، فعيوننا ستمرّ عليها آلاف الصور، والأخبار تقتل بعضها لكن من يخرج العمل الفني من إطار التوثيق ويجرّده من تهمة رواية الواقع.

وكيف لا والمسلسل يدخل في حلقته الأولى مخيم للاجئين السوريين في لبنان، فإذا ما خرج رأي مبكر عن مدى جدوى رواية الحكاية، جاء الاتهام مسرعاً من هيئة الدفاع عبر تويتر إذا صحّ الكلام، فكيف يجرؤ أحد على انتقاد “العميد”؟!

لندخل في الحكاية إذاً، ونقارب ما فكرّ فيه باسم السلكا في أولى تجاربه الإخراجية التي صدّرت الممثل تيم حسن للمرة الأولى بعد ثلاث سنوات خارج إطار شخصية “جبل”، حيث لم يتمكن مسلسل “عائلة الحاج نعمان” وبسبب العرض المشفر واللهجة المصرية من تحقيق نفوذ ليتم يغطّي على أثر شخصية جبل.

نجم “الانتظار” اتكأ على الستايل في البداية، الملابس الجلدية استبدلت بالبدلة الرسمية والقميص الأبيض، العلكة اختفت وظهرت النظارة، والذقن خفت من الجانبين وتكثفت دون طول ظاهر، وجبل بات مُراد.

الضم في الميم ليس اقتباساً من أي مسلسل تركي، لنستبعد ذلك وننظر للشخصية التي عرفت عنها الممثلة كاريس بشار من المشهد الأول كتمهيد ليتعرف الجمهور على شخصية فذّة يستعين بها الأمن اللبناني في حل القضايا الأكثر تعقيداً، عميد الكلية الذي يحمل مجموعة من الشهادات العليا يحظى بنفوذ كبير في جامعة لبنانية خاصة حتى أن الإدارة ترّشحه لاستلام رئاسة الجامعة، نعم هذا يحدث في لبنان! ولمَ لا هي دراما!!

تحدث الجريمة التي تروى بشكل متقطع دون ارتباط لن تتماسك خطوطه في الحلقات الأخيرة ولنفهم مسار الحكاية من الداخل سنقرأها من جانبين كيف تطورت شخصية “مراد” وشخصية “سلمى” عبر ثلاثة مراحل تتعلق برحلة البحث عن القاتل:

المرحلة الأولى: مرحلة التأسيس

في الحلقات الأربعة الأولى، العميد يبدو أقوى من سلمى، وبذلك نحن أمام انفعالات من الفنانة كاريس بشار منحتها التموضع مرة جديدة في صدارة نجمات الدراما العربية، حيث لا هذر في الانفعالات بل ترابط لشخصية حفرت ارتباكها جيداً في حوار يتراوح بين إصرارها على مساعدة العميد لها وصدمتها برحيل زوجها المفاجئ، قابل ذلك سكون لدى العميد الذي بدا متحدثاً عن القانون وشارحاً لمبادئه في مناظرة غير متكافئة فلا أحد يجادل العميد بل هو من يشرح ويحلل، وشخصية المحقق التي ترفض تدّخل العميد لم تدخل على خط نقاشه في ظروف الجريمة بل ولدت ندّية منذ البداية، المحقق يرفض وجود العميد ويشّك به، لكن العميد يخرج ورقة التفويض السحرية ويتخطى صلاحيات المحقق اللبناني ويتحرك في مسرح الجريمة بكل راحة ويتخيّل سيناريوالجريمة دون دلائل مترابطة، بل أنه يسبق التحقيقات اللبنانية بطلب كشف تجسيلات الكاميرات، ويلاحق الفتاة التي وجدت في مركز رعاية أطفال.

المرحلة الثانية: مرحلة الانقلاب

في الحلقات الوسطى، ستتغير الشخصيات وتنتقل إلى المستوى الثاني بدءاً بالعميد الذي يعطل كل حياته لملاحقة القضية رغم إبعاده من قبل المحقق، يتحرك براحة أكبر يحرك جميع الشخصيات لصالحه، ويلاحق الفتاة بسيارته عندما تخرج من المركز بطلب منه، بل إنه يحتضنها في منزله الذي فتشته القوى الأمنية قبل يوم، ويطلب من سلمى رعايتها في ذات المنزل. بالمقابل نلاحظ تصعيط بطيء على خط  سلمى التي تزيد شكوكها في زوجها وتبدأ مشاعرها تتحول من الحزن إلى القلق وبذلك تحافظ على درجة عالية من تماسك الأداء أمام حضور صديقتها وعائلتها “الشخصيات المساندة” الذين لم يضيفوا أي دور في الحكاية بل ظهروا كعبء على العمل، بعكس شخصية “أم رشدي” العاملة في منزل العميد والتي أدتها القديرة أمانة والي بشكل فريد، فأكسبت المسلسل سمة محلية وتمكنت من إضفاء لمحة الواقعية على العمل وإن كان هذا النموذج من الشخصيات يجري الاتكاء عليه في عدة أعمال مشتركة، ولكنّ المشاهد لا يمكن إلا أن يحب أم رشدي، يصدقها ويحب حسها الكوميدي.

المرحلة الثالثة: مرحلة الكشف

في الحلقات الأخيرة وحيث يتسارع الإيقاع، ويسأل المشاهد نفسه لماذا لم تكثف الأحداث منذ البداية بهذا الزخم يحاول قلم السلكا حمع الخطوط معاً ويعرف الجمهور أن الشخصيات التي تابعها منذ البداية ولم تترابط فيما بينها هناك ما يجمعها. تتقدم شخصية سلمى إلى الأمام وتصبح شريكة العميد في كشف ملابسات الجريمة لتبدو عليها علامات الصدمة في عدة لحظات أوقفت فيها كاريس الزمن وأعادته لشخصيات مرّت في الدراما السورية وأدتها بعناية، فذلك البريق لم يتغير رغم إحساس المشاهد أنّ هذا ليس مكان كاريس، بمقدار سعادة الجمهور بأول ثنائية سورية في بطولة الدراما المشتركة وفي أول لقاء درامي في مسيرة تيم وكاريس معاً.

لتذهب شخصية “العميد” في الحلقات الأخيرة إلى شخصية المتوتر الواقع في دائرة الاتهام، فتكسر الهالة التي بنيت حول العميد ونجده في المخيم، ولكنه حين يريد التبرير لتمسكه بالقضية يخرج خطاب لا يخلو من التنظير مرة ثانية بأن الدافع كان الأطفال والبريئين في المخيمات وليس دافع شخصي أو عاطفي، هنا يحاول “العميد” الهروب من التورط العاطفي بشخصية “سلمى” ويتحول بقدرة قادر إلى كاشف كل خيوط العصابة في المخيم، بل يعيد إقناع المحقق بإشراكه في التحقيقات وهو مطلوب للأمن واسمه في الصحف الرسمية، ليكتشف بحنكة لم نشاهدها في الأفلام العالمية مكان الجثة تحت شجرة زرعت حديثاً والتربة تحتها بلون آخر عن ما يحيط بها. بل يصل الذكاء درجة أن “العميد” يكشف مكان اختباء الشخصية المختفية منذ بداية الحكاية، فيفتح باب الخزانة لينتهي المسلسل كما بدأ عند وجه كاريس بشار.

هذا لا يعني إلغاء جهد ما قدمته شخصيات العمل بقدر ما هو قراءة لتفاصيل الشخصيات، فـ “تيم” الذي يحاول إبعاد الجمهور قدر الإمكان عن ملعب شخصية “جبل” يبدو مرتبكاً في التعبير على عكس كاريس المتشبثة بسوية أداء متوازنة طوال الحلقات، وكأنّها لم تقع في أسر الدراما المشتركة والقصص المعلبة فحاولت ربط الحكاية بالواقع قدر الإمكان وتقديم انفعالات قابلة للتصديق وهنا بدت وكأن الحكاية تسير في مسارين: الأول يقوم على فرضية الدراما المشتركة عينها والتي يضطر الجمهور مرغماً إلى إقناع نفسه فيما يشاهد، كوضع السوريين المريح جداً في بيروت، والعائلة التي يتحدث فيها الأب اللهجة اللبنانية والأم السورية وغيرها من الإسقاطات التي يمكن تقبلها فقط من بوابة دراما مشتركة غير واقعية.

والثاني يمكن في حضور شخصيات تتقد درامياً فنجد منافسة في أداء فادي صبيح وقاسم ملحو بالدرجة الأولى، بيدرس برصوميان وأكثم حمادة ومعن عبد الحق بالدرجة الثانية في مجموعة من الممثلين الذين يتحركون بملعب حر دون قيود ويعبّرون عن دراما مشتركة تستقي من الواقع مفرداتها، في حين لم يأتِ حضور الفنانة رنا شميس بالاستثنائي قياساً بما قدمته سابقاً خاصة في مشهد لقاءها في الحلقة الأخيرة حيث جاء الصوت مسجلاً فوق المشهد رغم أنه الذروة الأكبر في الحكاية.

لماذا المخيم؟

ما العبرة من دخول المخيم في هذا التوقيت الحساس من الحرب السورية. هل زار الممثلون المخيم وعاشوا به وسمعوا قصصه؟ هل قضى الكاتب شطراً من سنواته التسع السابقة في المخيم وعرف وجع اللاجئين في شتاء قاسٍ جديد؟

ماذا لو عرفنا أن حلقات الكاتب فؤاد حميرة عن رابع مواسم الهيبة رفضت لأنها قاربت مشكلات الناس في البقاع اللبناني، بل يأتي “العميد” ليظهر سكان المخيم بغالبيتهم متعاطين مخدرات، والأم تخشى على ابنتها ذات التاسعة من اعتداء جنسي فتسعى لترحيلها خارج المخيم إلى أوروبا وتدفع مقابل ذلك علاقة جنسية مع السمسار، في حين يختفي الأطفال من المخيم وأهلهم جميعاً لا يحركون ساكناً بل يجتمع الرضع في بناء مهجور قريب من المخيم، ويباعون بعد ذلك.

وحيث يشارك سوريون في الإنتاج والكتابة والإخراج والتمثيل، يبدو ذلك كعنصرية من الشعب نفسه على ذاته، فمن ينكئ جراح سكان المخيمات إذا شاهدوا هذه الحكاية؟! لا نلغِ وجود عصابات وظروف الحياة القاسية التي يتكبدها السوريون، لكن المهجّرون هربوا من الحرب الطاحنة ولكنهم هربوا بأخلاقهم، بتربيتهم وحين يصمت إعلام بلادهم عن قضاياهم ويتاجر إعلام الدول المجاورة بأرقامهم، يقع على الدراما واقع إنصافهم، وليس بناء بطولة لشخصيات على حساب قصصهم ومعاناتهم اليومية.

“العميد” حكاية درامية أعادت لنا تيم حسن في عمل سوري الهوية غير مكتمل الظروف، لكنها لم تستطع أن تنسينا “جبل” الذي تحرك في أماكنه القديمة نفسها، فكيف لهارب من وجه العدالة يدخل المخيم خلسةً أن يعود في العام ذاته ليدخل المخيم لينصف هموم اللاجئين؟!