ترجمان الأشواق: السينما في بيتك

بقلم شاكر الزعبي

عدسة سينمائية ساحرة نرقبها من أول مشهد، إنها “السينما في بيتك”

هكذا عنونها المخرج محمد عبد العزيز عندما أخرج مسلسل درامي بثلاثين حلقة برؤية سينمائية كانت كفيلة لأن تبهرنا من أول مشهد وعين ساحرة تشدنا نحو العمق في حبكة متقنة  

يعرض المسلسل على الشاشات السورية بعد عملية شاقة وتعرضه لعمليات القص والتعديل التي بقيت دون توضيح عن السبب الرئيسي لمنع العرض رغم أنه انتاج المديرية العامة للإنتاج التلفزيوني ونُسب إلى مشروع “خبز الحياة” رغم إنجازه على عهد الأستاذة ديانا جبور.

لا شك أننا أمام عمل شغوف حواراته متقنة ولقطاته أكثر تمكن وارتكاز يرافقها حالة إبهار. فقد ضاعت المهن ليصبح الجميع معلّم في زمن الحرب والهمجية الواقعة في نظر الكاتب وهذا ما شاهدناه في إحدى الحوارات الملأى بالدلالات. ناهيك عن الانسجام المقنع بالحوارات، كمن تعلم سيكولوجية الجماهير وصاغها على هيئة دراما، وأصبح يتعامل معنا بها. أي أننا جميعاَ معجبون بتواجد هكذا تناغم مبدع يلامس قلوبنا جميعا ويعبر بنا نحو عالم درامي جديد عذب الانتقاء، في كل زاوية ينتقيها تشعلنا حنيناً وتجعلنا نتوق أكثر لدمشق حتى وإن كنا نعيش بداخلها، وكأنها فعلا دراما بلغة سينمائية عذبة.

المخرج محمد عبد العزيز يؤكد لنا أنه على دراية كاملة بثقافتنا البصرية والفكرية، كما يحترم عقولنا، فلم يتجه من صناعة السينما لتلوث درامي بل برهن لنا أن السينما مع الدراما مزيج يلامس الجميع.

ضم المسلسل بين دفتيه ثلاثي درامي اجتمع في عمل مليء بالحب والقوة والخوف والضعف والانكسار وقبل ذلك جميعاً الوعي،  فبدت أحاديثهم عن الواقع بملمس المخمل بطريقة عبورها إلى العمق دون إيذاء أوإقحام.

هنا نقف أمام أساتذة التمثيل غسان مسعود وعباس النوري وفايز قزق، اليساريون اللطفاء !!

لا نعرف مدى ضرورة إقحام المُشاهد بخلفية سياسية وحزبية كاليسار أوغيره. ولكن ما نعرفه أننا أمام ثلاثة يساريين لطفاء بعيدين كل البعد عن معتقدات الدولة السورية سابقاً التي جعلتهم بعين المواطن شبح أو متمرد خارج عن السرب، “زهير” الطبيب الذي يتجه للدين والمصالحات الانسانية ليصبح جسر السلام بين السوريين في ظل الحرب، “كمال” الذي نسي نفسه في التسعينات متخبط في ماضيه بين الكتب ناسياً ما أصبح حاضره، “نجيب” الذي قرر الهروب من وطنه ليحافظ على معتقداته الحزبية ثم عاد للبحث عن ابنته المخطوفة .

ولكن عبد العزيز يخرج منهم ثلاث شخصيات متناغمة بروح خمسينية حالمة وقلقة ولطيفة، ثلاثي عملاق بحجم الدارما السورية لهذا الموسم: عباس النوري يكسر نمطية صورته التي وقع في أسرها ضمن “باب الحارة” بأداء ساحر ومتقن ، فايز قزق الوفي لأداء منفرد ومنتقي للقيمة الفنية ولا تهمه الترهات، غسان مسعود السينمائي الحالم والمتروي بكل تحركاته وانفعالاته.

وهذه الشخصيات تشبعت بالرمزية بين رجل مثقف خمسيني يعزز فكرة تقبل المساكنة من غير الزواج ضمن وسط مجتمع غارق بالعادات والتقاليد، ورجل آخر في قمة الوعي يبحث عن شبابه الضائع مع راقصة، والثالث يرمز للوفاء و حبه لزوجته حتى بعد وفاتها التي لا نعرف عنها سوى صورة.

أما التركيز فجاء على بناء الحدث الرئيسي وهو قصة “آنا” المفقودة مقابل ضعف التركيز على خطوط أخرى وتأخر ظهورها في الحبكات الفرعية: مثل حياة الدكتور “زهير” وأسباب النقلة النوعية التي حصلت بحياته جعلته من يساري سياسي الى التدين والتصوف، أو شخصية “كمال” الذي بقي على أمجاده ويواجه صعوبة بالتطور الذي يحيطه، أو شخصية “وصال” الزوجة الصامدة رغم حالة “أبو كمال” ومرضه وعدم تسليط الضوء على علاقتها بأصدقاء زوجها في السابق، أو حياة الراقصة شاليمار السابقة. غياب التركيز على هذه الخطوط جعلت العمل يمضي ببطء شديد حيث أن المجازفة بمساحة عرض الـ “120 دقيقة” تختلف تماماً مع الحكاية نفسها في مساحة عرض  الـ”1200″ دقيقة.

هكذا جاء النص سينمائياً بحبكة درامية تمتد لثلاثين حلقة فلا يبد أن يحمل وهن في الوقت وبطء في سرد الاحداث . لكن البطء نفسه قدم مشاهد تحتوي على شحنات عاطفية كثيفة تسحر الجمهور، ثم أن التعويل على ذاكرة المغترب السوري ليرى دمشق وكل مكان بها كانت فكرة ناجحة تجعلنا نشتاق لدمشق أكثر وأكثر .

وماذا لو كانت الموسيقى التصويرية ملائمة بالشكل المطلوب لكثافة الحنين لكان قد جعلها بمنتهى الجاذبية و الجمال، لعلها جاءت قاصرة عن اللحاق بالصورة السينمائية الساحرة.

وأخيراً أقول أن الحديث عن بطء في سرد أحداث العمل والخيارات المتعلقة ببنية حكايته، أو بعض الأخطاء لا يقلل من مستوى مسلسل “ترجمان الأشواق” ولا القيمة الفكرية والجمالية فيه، ولا يقلل من جهد صانعيه.