حين طرقت الدراما السورية باب المحظور!!

لربما يخطر ببالكم فور قراءة العنوان ما المقصود بالمحظورات هذه؟ ولماذا محظورة؟ ومَن حظرها؟

حيث لن نتطرق في هذا المقال إلى مشاهد جنسية ساخنة أو قُبلة فموية أو ألفاظ قذرة وشتائم بذيئة تحرّم الدراما السورية حتى الآن وجودها على الشاشات رغم التطور الكبير الحاصل في جرأة الطرح منذ أيام التسعينات حتى الآن؛ محترمةً بذلك رغبة الجمهور في الحفاظ على الضوابط لمجتمع عربي ذي غالبية مسلمة متحفظة، ولن نبحر في الحديث عن أفعال البشر الشنيعة والتي يحظَّر عليهم فعلها أخلاقياً كالقتل والخيانة والتعنيف فهي أمور من الضروري طرحها لتسليط الضوء عليها قدر الإمكان، ولن نخوض في محظورات ومحرمات النقاشات والأحداث السياسية التي تودينا في متاهة كبيرة قد لا تنتهي

إنما سنتحدث عن قضايا موجودة في مجتمعنا بكثرة وأدرجتها المجتمعات المتقدمة مؤخراً تحت بند “الحرية الشخصية” ولكن مازالت تثير الجدل والريبة والتعنّت والشتائم المتبادلة بين الجميع لدى مجتمعاتنا سواءً في الحياة العادية أو على وسائل التواصل الاجتماعي مسببةً تشنجاً غير عادي..  فما هي ترى هذي المحظورات؟ وكيف تناولتها الدراما السورية؟ وهل كان الطرح نابعاً عن معرفة عميقة بحقيقة الأمر أم كان خجولاً ويلائم رغبة المجتمع ووجهة نظره؟ مَن تَمَرَّد ومَن سايَرَ المجتمع في أهوائه وآرائه؟ تابعوا في هذا المقال استعراضاً لبعض منها:


1- الزواج المدني:

مازال موضوع الزواج المدني يثير الهلع والجدل لدى غالبية مجتمعنا السوري بين مؤيد ومعارض للفكرة، ومازال يُنظر له بعين الريبة والحرام والعيب وربما الغالبية لا يعلمون أصلاً بكيفية إنشاء هذا العقد. حيث يخضع الزواج المدني لاحترام وخصوصية لدى المجتمعات المتقدمة فكيف تطرقت الدراما السورية لهذا الموضوع؟

طرحت الدراما السورية مشكلة الزواج بين الأديان المختلفة “مسلم و مسيحية” ورغم أن هذا الزواج صحيح ديناً و قانوناً إلا أنه منبوذ لدى غالبية المجتمع المسيحي وربما المسلمين أيضاً، فالبيئة وأسلوب الحياة وطقوس العبادة مختلفة لدى الدينَين، مما يشكل خوفاً من اتخاذ هذه الخطوة وقد طرحت العديد من مسلسلات الدراما السورية مشكلة زواج المسلم بمسيحية والمعاناة الاجتماعية التي يمران بها كي يجمعهما سقف واحد وحب واحد. والأمثلة كثيرة على ذلك كحلقة “يا مريم البكر” من مسلسل أهل الغرام الجزء الأول، وعدة مسلسلات أخرى مثل “وجوه وراء الوجوه”، “أحلام كبيرة”، “بنات العيلة”، “وشاء الهوى”، “علاقات خاصة”، وهي عبارة عن مجموعة من القصص المتشابهة في الأسلوب والمختلفة في النهاية، فبعضها كانت نتيجته الفراق حرصاً على نظرة المجتمع والأهل وبعضها كانت نتيجته الزواج دون الاكتراث لأي نظرة اجتماعية أو دينية. لكن لم تتطرق الأعمال السورية إلا فيما ندر إلى زواج المسيحي بمسلمة وهو الموضوع المُحَرّم ديناً وقانوناً ولا حَلّ له إلا أن يقلبَ الرجل دينه إلى الإسلام حتماً كون “الزواج المدني” غير مُشَرّع في سوريا! ولعلّ الكاتبة “يم مشهدي” و المخرجة” رشا شربتجي” أكثر مَن عَمِلا على هذه القصة الجريئة في مسلسل “يوم ممطر آخر” حيث نجد الرجل المسيحي والفتاة المسلمة اللذَين يعشقان بعضهما، ويقومان بعلاقة جنسية قبل الزواج مما يجعل الوضع كارثياً وخطيراً ويجب إصلاحه، لكن كيف يحدث ذلك والزواج بينهما ممنوع؟!!

يقلب “شادي” دينه للإسلام تاركاً أهله الذين نبذوه وأقصوه وحرموه من الميراث ويعيش مع زوجته في فقر شديد بغرفة مُستأجرة وتنشب بينهما المشاكل أيضاً نتيجة المعاناة المادية

في هذه الثنائية التي قام بها “مكسيم خليل” و”سلافة معمار” دلالة مستترة على ضرورة وجود الزواج المدني في هكذا حالات، حيث يبقى الرجل على دينه والمرأة على دينها، وصحيحٌ أن المرأة المتزوجة من رجل مسيحي تعتَبر خارجة عن الإسلام أصلاً، إلا أن الأمر يصبح هنا خاضعاً لتقدير وظروف الشريكَين ومعتقداتهما الدينية التي لا يحق لأحد أن يمسَّ بها في النهاية

ويبقى موضوع الزواج المدني مطروحاً إلا أنه شائك ومازال يشكّل لغطاً كبيراً ومشاكل عظمى قد تصل حد القتل رداً للشرف المهدور!!


2- المثلية الجنسية:

 

تُعتَبر المثلية الجنسية من أكثر القضايا تداولاً في المجتمعات العربية والأجنبية حتى، و بين رافضٍ ومؤيِّدٍ للفكرة وتغيير للمسميات بين “مثلية وشذوذ” تبقى علاقات المثلية قائمة في كل المجتمعات دون استثناء بعضها ظهرَ للعلن كحال بعض الدول الغربية نتيجة تشريعه قانوناً واعتباره نشاطاً جنسياً طبيعياً موجوداً. فقد ألغيت المثلية الجنسية من قائمة الأمراض النفسية حسب ما صدر عن منظمة الصحة العالمية ودليل التشخيص النفسي الأمريكي والبريطاني 1970.  بينما وعلى ضفاف أخرى من العالم، “العربي وحتى غير العربي” مازالت أكثرية هذه العلاقات تتم في السر خوفاً من القتل والاضطهاد والعقوبة القانونية لهذا الفعل ونظرة المجتمع الإقصائية ومعايير العيب والحرام.

وقد تطرقت الدراما السورية بشكلٍ خجولٍ جداً لموضوع المثلية الجنسية دون التعمّق فيه مما يبيّن لنا الخوف الذي قد يصيب قلم الكاتب في طرح هذه القضية وعدم قدرته على الخروج بفكرة جريئة واضحة وصحيحة للجمهور

غالبية الأعمال السورية التي تناولت هذا الموضوع رغم قلّتها قدّمته كفعل مشين وغير مقبول، نذكر أهمها في مسلسل “ما ملكت أيمانكم” للكاتبة “هالة دياب” والمخرج “نجدة أنزور” والذي تخطى كل حدود الجرأة وأثار جدلاً واسعاً، حيث قدمت الكاتبة شخصية مثلية شريرة أداها الشاب “أحمد لبابيدي” الذي يستغل فقر صديقه فيعطيه نقوداً بعد كل عملية جنسية بينهما وحين يرفض صديقه ذلك بعد حين ينتقم منه باغتصاب ابن أخته الصغير، فتوضّح لنا هالة دياب في هذا العمل دناءة المثلية الجنسية “بنظرها” لتقدّمه كاضطراب نفسي كما يعتقد شريحة كبيرة من المجتمع السوري، لا سيّما أن الكاتبة في مشاهد قليلة جداً قدّمت أيضاً معلمة الدين التي تجلس مع الشابات في بيتها ضمن دروس دينية كشخصية مثلية الجنس، تداعب طالباتها، وتنظر لهنّ بشهوة، في دلالةٍ على تواجد حلقات مغلقة باسم الدين يدرِّس فيها أشخاصٌ مشوّهو النفسية والتصرفات بحسب ما قدم المسلسل.

بينما ينتقل بنا مسلسل “قلم حمرة” للكاتبة “يم مشهدي” والمخرج “حاتم علي” إلى عالمٍ مغايرٍ تماماً أقل تهجماً من هذه الناحية، حيث خصصت يم خطاً كاملاً لشخصية مثلية قام بدورها الفنان “مصطفى سعد الدين”، وقُدمت هذه الشخصية بطريقة طبيعية فهو شاب طبيعي الشكل والهيئة كما أنه مبدع وموهوب وفاعل في المجتمع كحال الكثير من المثليين في سوريا والعالم، إلا أنه يعيش في تخبط ويحاول الانتحار مراراً لِما يسببه له الكبت المجتمعي من ألم نفسي، وعدم قدرته على التعبير عن ذاته بطريقة طبيعية كما كل البشر، فضلاً عن قرار شريكه بالزواج من فتاة بعد طول صراع في طريقةٍ من الأخير للهروب من واقع المثلية ومحاولة التأقلم مع المجتمع فيفترقان بحب ودون مشاكل، كما نجد “نورس” رافضاً استغلال مثليته الجنسية كوسيلة سفر إلى باريس، بل يبقى في بلده محاولاً إثبات ذاته.


3- التحول الجنسي :

لعلّ قضية التحول الجنسي أو “التصحيح الجنسي” إن صحَّ القول من القضايا القليلة في مجتمعنا والتي يتساهل معها القانون إجمالاً لكنها موجودة حتماً سواءً بسبب خلل الأعضاء التناسلية أو رغبة الشخص ذاته في قلب جنسه دون وجود خلل ما في أعضائه، وأيضاً لم تخُض الدراما السورية في مشاكل هؤلاء الأشخاص بشكلٍ مُعَمَّق إلا قليلاً. فضمن مسلسل أهل الغرام الجزء الثاني قُدّمت حلقة بعنوان “علمّوني” التي كان بطلاها “أحمد الأحمد” و”ميسون أبو أسعد” حيث تنقلب علاقة الحب بينهما رأساً على عقب بعد اكتشاف خلل في جسد “إيمان” فتختفي عن عينَي حبيبها دون مبررات واضحة رغم حبهما الجارف، وتنسف العائلة كلها وجودها وموضوع تحوّلها الجنسي إلى شاب كامل مازال يعشق شاباً وكأنه لم تكن هناك شخصية اسمها “إيمان”.

لتنتهي القصة بانتظار “فؤاد” لفتاةٍ وقفت أمامه في الحديقة لكنه لم يعرفها فقد أصبحت شاباً مثله. 

ومن أبرز الأعمال التي تناولت قضية التحول الجنسي هو مسلسل “شتاء ساخن” لكاتبه “فؤاد حميرة” و المخرج “فراس دهني” والذي قدم شخصية “سامية” التي تشارك أختها الكبرى أسرارها كونه لا يوجد إخوة غيرهما حيث تعيش الفتاتان في حالة من الأخوّة والتفاهم في ظل تسلط أب متخلف رافضٍ للبنات ضمن بيئة شعبية فقيرة ، إلى أن يأتي يومٌ وتكتشف فيه الطبيبة مشكلةً في جسد سامية وأنه يجب تصحيحها لتنقلب إلى ذكر

يفرح الأب الذي حُرِمَ من “الصبيان” ويهلّل لهذا الخبر ناشراً إياه بين الجميع، فهو والد الرجل القادم بعد طول مدة، وفقدان أمل، وبهذا تتحول “سامية” التي قامت بدورها الممثلة الشابة “لمى الحكيم” إلى “سامي” ويتكرس عنده مفهوم الذكورة الذي شبّ عليه فتنقلب أسراره مع أخته-التي كانت تعيش قصة حب أودتها إلى علاقة جنسية- إلى شواهد ضدها ليقوم بتعنيفها وضربها وتهديدها كما كان يفعل أبوهما تماماً، لتتمنى أخته في النهاية أن يعود فتاةً نقية الروح ولطيفة كما كان.

يرسّخ هذا العمل بشخصية “سامية” فكرة التحول الجنسي المُحَبّبة للجميع في حال انقلبت الأنثى إلى ذكر، لكن هل العكس مقبول أيضاً وجديرٌ بالفرح والتهليل ذاته في ظل هذا الازدراء؟ كما يوضّح لنا المسلسل كيفية تعامل المجتمع المحيط مع هذه الشخصية الجديدة التي تلاقي الترحاب كونها أصبحت “رجلاً!!”.


4-  ماهية الله والأديان:

 

قدّمت الدراما السورية العديد من الأعمال التي تنوّه لخطر التطرف الديني والإرهاب الذي يسببه في المجتمع كمسلسلات “الحور العين”، “ما ملكت أيمانكم”، “المارقون”، “بلا غمد”، و”غرابيب سود” فضلاً عن لوحات مختلفة كوميدية في “بقعة ضوء” ازداد عددها أكثر تزامناً مع الوضع الراهن.

إلا أن مشكلات الأديان تظل حساسةً جداً لدرجة امتناع الكثيرين عن الخوض فيها بشكل مباشر. فمع انتشار الطوائف المختلفة في سوريا أيضاً تنتشر “اللادينية” كنمط تعريفي أقل وطأة من “الإلحاد” كون اللادينين يعترفون بوجود الله دون الأديان بعكس الإلحاد الذي ينكر وجود خالق للكون. لكن نادراً ما تكلّمت الدراما عن هذه المواضيع، حيث لم تتطرق لشخصيات لا تؤمن بالإله أو تنبذ الأديان بشكل فج وصريح بل تمر هذه المَشاهد مرور الكرام تاركةً الجمهور في حالة من التساؤل.

 

نعود هنا  إلى مسلسل “قلم حمرة” لما فيه من حوارات ومحاور فلسفية اجتماعية جريئة، حيث نشاهد “ورد” في المعتقل برفقة امرأة متديّنة، لينشب حواراً متصارعاً بين الدين و نقيضه 

فالمرأة تلك متمسكة بتعاليم الدين وتريد تطبيق الشريعة في سوريا مع التغيير الحاصل فيها، أما “ورد” فهي تطمح لمجتمع مدني قائم على التعددية والاختلاف، ورغم عدم التطرق بشكل مباشر لخلفية “ورد” الدينية إلا أنه من الواضح نتيجة هذا الحوار أن الأديان لا تعنيها بشيء بل هي قيد تحاول التخلص منه.

و في مسلسل “البيوت أسرار” عن رواية “ثم أزهر الحزن” للأديب السوري “فاضل السباعي” و نص “رانيا بيطار” وإخراج “علاء الدين كوكش” نشاهد “هالة” الأخت الصغرى لـ “نورا” التي أقعدها المرض تهرع نحو أمها قائلةً إن “نورا” تكفر بالله، فتركض الأم نحو غرفة ابنتها المريضة وتوبخها رغم مرضها ويأسها لتعيدها إلى رشدها ودينها كي لا تشذّ عنه أو تحاول التفكير خارج المنظومة الاجتماعية والدينية في دلالةٍ واضحة على نبذ المجتمع والأهل لأي معتقد ديني مخالف لما ربّوا عليه أبناءهم.

ويطالعنا مشهد بارز في مسلسل “مذكرات عشيقة سابقة” ضمن حوار بين “شكران مرتجى” و”كاريس بشار” الأختان اللتان تعانيان من ظروف الحرب القاسية والتهجير، حيث تتساءل “هنادي”:

“هل الله يسمعنا؟ هل يصله صوتنا بعد حرب و قتل ودمار لأكثر من خمس سنوات؟ هل الأطفال الذين ماتوا أخبروه عن بشاعة ودناءة الحرب والموت قتلاً وخطفاً وبرداً؟”

ربما كان المشهد درامياً استعطافياً إلا أنه جريء في نفس الوقت فهو يطرح فكرة جدلية وتساؤل يمرّ على ذهن أي إنسان يحاول التفكير خارج إطار المُسَلّمات مفاده “هل الله موجود ويسمع ويرى كل هذا دون أن يأتي بحركة تحفظ للأطفال حقوقهم وكرامتهم؟ “


بذلك نكون قد نوّهنا إلى بعض القضايا المهمة والمتواجدة في مجتمعنا والتي طرحتها الدراما بأسلوبٍ مصبوغٍ بخجل واضح تاركين لكم الرأي والتقييم في هذه المواضيع التي تظل حساسةً ولكنها تكوّن فضاءً واسعاً يمكن أن نتكلم ونستشهد فيه بآلاف القصص ونترجمها بصرياً على الشاشات ، إلا أنه لا يمكننا خدش هذا الفضاء بسهولة خصوصاً أننا مازلنا في مجتمع يتخبط بين التعصب والتحرر ولا يمنح حرية الاختيار والتفكير والميول للفرد، فبالإضافة للتشنجات السياسية تدخل هذه المشاكل على الخَط لتؤجّج انقسام السوريين بدل أن تضعهم على طاولة التفاهم والنقاش الطبيعي

وفي خِضَمّ هذه المشاكل يبرز الفن كعنصر ضروري وربما فعال لطرح مختلف القضايا الشائكة والحساسة لكافة فئات المجتمع بشكلٍ راقٍ يتوافق مع كل الآراء ويجمعها، فهل سنجد الدراما يوماً تؤثر إيجاباً على آراء الجمهور؟ وهل هي قادرة على جَمع الناس على التفاهم العقلاني الراقي المنطقي أم ستبقى الشتائم والصراعات على الواقع والإنترنت سيدة المواقف في بلدٍ ينقسم جغرافياً واجتماعياً وسياسياً في اليوم ألف مرة؟

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *