حارسة كوميديا العرب.. إنها السّامية

بقلم بشار شهاب

أطلّت بشعرها الأسود الليليّ وابتسامتها الواعدة على التلفاز في بداياتها، وبخفّتها اعتلت المسارح لتبهج الجماهير بعفويتها وبساطة آدائها، أما رنين صوتها فاكتسح ترددات الإذاعات بأجمل المسلسلات، مروراً بأروع مشاهد السينما التي حُفرت في الذاكرة.

فنانة وليدة الصدفة، لم ترى عتبات المعاهد التمثيلية يوماً لكنها شكّلت مدرسة فنية بحد ذاتها، فهي للكوميديا العربية مؤسستها وللتراجيديا عرّابتها أما للبيئة الشامية فأيقونتها.

هي المرآة الأكثر صفاء في مرايا ياسر العظمة والنجمة الأشد ضياء في سلسلة عائلات هشام شربتجي، إنها شامة البيئة الشاميّة عبر تاريخها والسّامية بين فنانيها.

سامية الجزائري، فنانة بحجم وطن

ولدت الفنانة سامية الجزائري في 25 نوفمبر عام 1946 وبدأت مشوارها الفني بالصدفة حينما عرضت المخرجة السورية قسمت طوزان عليها التمثيل بقولها “بتمثلي؟ ” فأجابتها سامية بكل عفوية ” أي بمثل شو خايفة منك ” ومن هنا كان أول أعمالها التلفزيونية هو مسلسل أبو البنات ومدته ربع ساعة فقط حيث أطلّت بدور الممرضة ومن بعدها توالت الأعمال بكثرة في التلفاز،السينما،المسرح والإذاعة.

هي زعيمة عائلة الجزائري فنيّا مع شقيقتها القديرة صباح الجزائري. عاشت سامية الجزائري طيلة حياتها دون زواج ولم تتمكن من تأسيس عائلة أو الإنجاب على الرغم أن معظم أدوارها كانت تدور حول الأمومة، استطاعت الجزائري أن تدحض مبدأ “فاقد الشيئ لا يعطيه” وفاضت بمشاعر أمومتها في جميع شخصياتها التي تطلبت منها هذا، فهي من أنجح الممثلات التي تركت بصمتها بدور الأم في الدراما السوريّة على الرغم من كثرة منافساتها على هذا النوع من الأدوار في عصرها، حيث  لقبت بعذراء الشاشة السوريّة وأم الكوميديا العربية.

تكثر أدوارها المميزة ولكن سأذكر الأكثر جماهيرية محليّا وعربيّا، أم عنتر في صح النوم، أم صادق في ليالي الصالحية، أم عبدو في أيام شاميّة، أم لطفي في أبو البنات، أم النور في أبو جانتي، و دور الجدة في قصاقيص كان يا مكان، أما دورها الذهبي في شهرتها عربيا فهو أم أحمد ( خيرات بلاليش) في مسلسل عيلة خمس نجوم و يليه شخصياتها المميزة في هذه السلسلة بأدوارها (بوران و فردوس أبو كرعوبة) ببطولتها المطلقة على الرغم من كثرة النجوم المشاركة في هذا العمل.

شخصيات في عمق الذاكرة

من منا يستطيع أن ينسى دورها في شخصية سعدية بنت المسعود في مسلسل جميل وهناء حيث لمعت أم محمود بدور الجارة البخيلة والمستفزّة التي تتدخل في شؤون جيرانها وتعيش متطفلة على من حولها، وبلمساتها السحريّة استطاعت سامية أن تنقش هذه الشخصية في أذهان العرب من محيطه لخليجه، إذ جعلت من أم محمود حقيقة متجسدة في كل منزل، وأصبحت عبارات هذه الشخصية وكلامها كالشعارات التي تردد في جلسات الأصدقاء لكل من أراد أن يلقي دعابة، وبعد عشرات السنين التي مضت على هذه الأعمال لا تزال إلى يومنا هذا تحقق أعلى نسب المشاهدات عند إعادة عرضها تلفزيونياً أوعلى منصّات التواصل الإجتماعي.

أتقنت الجزائري أدوارها، و تنقّلت بين الكوميديا، التراجيديا، الإجتماعي والبيئة ببراعة تامة، تتمع بروح الارتجال والسليقة بأدوارها مما يضيف واقعية وحياة للمشهد دون الخروج عن الإحترافية، فثقافتها العالية ومرونة شخصيتها وطاقتها المضاعفة تجلت واضحة في أدوارها. حتى يومنا هذا، لا يمكن أن ترى مشهدا لها دون أن تلاحظ كمية الجهد الذي يبذل على تعابير الوجه وطريقة الكلام التي تصبح بكل بساطة “تريند” بحسب مصلحات هذا الجيل.

غياب إعلامي ثقيل وحضور عربي لطيف

على الرغم من كل هذه النجومية والانتشار والباع الطويل في الفن الذي قارب الستين عاماً، إلا أنه من الصعب أن تجد مقابلة تلفزيونية أو ظهور إعلامي خاص لها، إنما يقتصر ظهورها على أدوارها وشخصياتها ضمن أعمالها، حيث تعتبر سامية الجزائري أن الفنان عليه التمثيل فقط بعيدا عن التصريحات الإعلامية والمقابلات والأحاديث التلفزيونية إضافة لعدم رغبتها بالظهور. لكن وبشكل مفاجئ طرحت القديرة مقطعا صوتيا على قناتها الخاصة على موقع يوتيوب الشهير طالبة من محبيها الإشتراك بهذه القناة لمتابعة كل جديد عنها، وكانت شخصيتها المرحة وعفويتها واضحة تماما في هذا المقطع الصوتي وكأنها لم تغب عن جماهيرها لسنوات.

كان لها ظهور خاص في الدراما العربية المشتركة في السنوات الأخيرة ضمن مسلسلي “جيران” الذي تم تصويره في أبوظبي ومسلسل “زفة” في بيروت، حيث حافظت سامية على لمساتها الخاصة حتى في الأعمال العربية وبات قاموسها اللغوي للأمثال الشعبية والدعوات الشامية مرجعاً لكل شخص أراد استخدامها،مع تعابير وجهها الخاصة ونبرة صوتها المطبوعة في الأسماع.

حرفة الكبار وملامح استثنائية

شهدت الساحة الفنيّة على مر العصور ظهورا لكثير من الفنانات اللواتي حاولن أن يتركن أثراً في الدراما بشكل عام والكوميديا بشكل خاص، وعلى الرغم من كثرة إنتاج المسلسلات الكوميدية والمحاولات المتكررة لصناعة محتوى فكاهي للجماهيرعن طريق شخصيات وأدوار كوميديّة، إلا أنه ما إن ينتهي عرض المسلسل على الشاشات حتى تزول هذه الشخصيات من الذاكرة وينتهي تأثيرها المضحك علينا كمشاهدين.

وحدها سامية الجزائري استطاعت عبر السنوات السابقة، أن تنقش شخصياتها في قلوب أبناء هذا الجيل تاركة أثراّ لا يستهان به في صفوف الشباب الجديد إنطلاقا من المشاهدين في منازلهم وصولاً  لفنانات هذا العصر، حيث يمكن ملاحظة هذا التأثير جليّا على بعض نجمات الشاشة سواء بطريقة الآداء أو استخدام الحركات حتى أدق التفاصيل كالصوت وتعابير الوجه نفسها.

تقليد من جيل لجيل

وحدها من بنات جيلها من استطاعت أن تقتحم عالم السوشل ميديا وبدون استئذان، حيث انتشرت فيديوهات لها ولشخصياتها بصوتها على موقع ” تيك توك ” العالمي من قبل فنانات هذا الجيل كالممثلة نسرين طافش أوالممثلة نادين نسيب نجيم وصولاً للفنانة الشابة ماريتا الحلاني وغيرهنّ من الفنانات اللواتي استخدمن صوت سامية الجزائري في فيديوهات مضحكة قاموا بنشرها على حساباتهم الشخصية، متأثرين بشكل واضح بنجومية هذه القديرة العابرة للأجيال.

كان أخر ظهور للفنانة سامية عام 2020 بدور أم جورج في مسلسل “حارس القدس”  حيث بدت خطوط الحياة وأرشيفها الفني واضحة على وجهها وذلك على الرغم من استخدام مساحيق التجميل لزيادة سنّها كي تتلائم مع دورها كوالدة الممثل رشيد عساف في المسلسل، إلا أن هذا لم يقلل من براعة آدائها وتعابير وجهها الحنونة.

وبلسان العتب الموجّه لشركات الإنتاج والمخرجين الحاليين، الذين يسبحون في موجة الأعمال الصبيانيّة العابرة واللاّهثين خلف الوجوه الشابّة والثنائيات المملة، متناسيين تماما وجود رموز فنيّة عريقة لا تزال في قمة عطاءها وإبداعها الفنيّ. وبينما تُكتب النصوص وتحضّر المسلسلات والأعمال الضخمة التي تفصّل على مقاسات تلائم أعمار أيقونات مصر النسائية الفنيّة، أمثال يسرى ونبيلة عبيد وناديا الجندي، نلاحظ تهميشاً كاملاً لبنات جيلهم من أقرانهم في بلاد الشام، حيث تقتصر أدوارهم على الأمهات والعمّات والعاجزات.

حصلت سامية الجزائري على مجموعة من الجوائز خلال مسيرتها الفنيّة، وكرّمت في أعرق المهرجانات العربية، لكن تنتهي الكلمات وتعجز السطور عن إعطاء هذه السيدة حقها في الوصف، لتبقى السمراء من بلادي متربّعة على عرش الدراما السوريّة، سامية في أخلاقها الفنيّة وحارسة للكوميديا العربية لكل من أراد التطفل.