البراءة على التلفاز…عمالة مستترة باسم الموهبة

يكثر الحديث في زمن الحروب عن الطفولة وضياعها في ميادين النزاع, لا يقتصر الأمر على أيام الأزمات ففي زمن السلم وفي الظروف الاقتصادية الصعبة تتعالى الأصوات المنادية بحماية الطفولة من العمالة لاسيما الأعمال التي يكون الأطفال غير مؤهلين لها جسدياً أو نفسياً.

وهنا سنطرح تساؤلاً …هل من الممكن تصنيف التمثيل والغناء والاشتراك في برامج المواهب ضمن عمالة الأطفال؟

بحسب اتفاقية حقوق الطفل (المادة 32-1): تعترف الدول الأطراف بحقّ الطفل في حمايته من الاستغلال الاقتصادي ومن أداء أيّ عمل يرجّح أن يكون مضراً أو أن يمثّل إعاقة ليتعلّم الطفل أو أن يكون ضاراً بصحة الطفل أو بنموه البدني أو العقلي أو الروحي أو المعنوي أو الاجتماعي”.

إذاً… فالأمر يتمحور حول نقطتين:

1-الاستغلال الاقتصادي

2-الضرر بجميع أنواعه

عندما يتعلق الأمر بموهبة الطفل فهو لن يعاني -غالباً- من أضرار نفسية أو جسدية تذكر وسيستطيع إكمال تعليمه بشكل طبيعي, لكن عندما سيتم استغلال هذه الموهبة اقتصاديا فستكون النتائج على العكس من ذلك وهو ما يدفعنا هنا لتصنيف استغلال موهبة الطفل كـ”عمالة أطفال”.

برامج المواهب الطفولية:

انتشرت العديد من البرامج التي تُعنى بمواهب الأطفال, فمن الغناء إلى التجويد جميع البرامج اعتمدت على ذات الآلية في التعامل مع الأطفال, أبرز هذه البرامج كان “The Voice Kids” المعروض على محطة MBC , البرنامج المعني بالأطفال لم تكن أوقات عرضه كذلك وهو أمر تشترك فيه معظم هذه الأنواع  من البرامج , أمر يعيدنا لبرنامج ” Star صغار” الذي عرض قبل أعوام على إحدى المحطات التلفزيونية, وكذلك الأمر بالنسبة لمحطات مخصصة للأطفال كـ قناة “نون” التي عرضت برنامج “النجم الصغير” و “طيور الجنة” في برنامج ” الكنز” , وفي المحطتين الأخيرتين كان الاختلاف فقط فيما يقدمه الأطفال من أغان حيث اقتصرت على أغاني الأطفال دون الأغاني العاطفية – وهو ما يتفق مع طبيعة وتوجهات المحطات الطفولية-.

الأمر لم يقتصر على برامج مخصصة للأطفال, فبرنامج المواهب العربي الأشهر ” Arabs Got Talent”  استقطب عدداً لا بأس به من المواهب الطفولية وانتقل بها حتى مراحل متقدمه من التصفيات!

إذا فهذه البرامج رغم اعتنائها بالطفولة لكنها وجهت بشكل مباشر “للمشاهد الكبير” الذي سيقوم بالتصويت والتفاعل مع ما يتم عرضه, واستطاعت المحطات التي عملت بذكاء أن تستغل الوضع العربي بما يحمله من وبالات على الطفولة وأن تؤثر في عواطف هذا المشاهد عبر تقارير منتقاة -لأطفال بعينهم غالباً- فرفعت التفاعل على مواقع التواصل لتكون “ترندات عالمية” في كثير من الأحيان, ولا ندري لولا الأزمات العربية كيف كانت ستتم رفع نسب المتابعة “العاطفية” لهذه البرامج!

 

بعد برامج المواهب … استغلال جديد

ففي متابعة غير متعمقة للبرامج التلفزيونية ستجد أن أطفال المواهب الذين اشتهروا في موسم “the voice kids” الماضي يظهرون في برامج متنوعة في مناسبات كثيرة ومن قبيل الصدفة قبل فترة قصيرة عُرض برنامجين في وقت واحد تم استضافة ذات الأطفال فيهما وهما ” طرب مع مروان خوري” و “أحلى سهرة مع رابعة الزيات”!, عدا عن استضافة الأطفال على القنوات المحلية لبلدانهم في كل مناسبة. وبالرغم من الفرح البادي على وجوه هؤلاء الأطفال وانبهارهم بأضواء الشهرة إلا أن الأمر ليس مجرد عرض للمواهب, فهو رفع لنسب المتابعة وبالتالي زيادة الإعلانات التلفزيونية لنجد أنفسنا نصل لـ “استغلال اقتصادي” لموهبة الطفل وظهوره, هذا الاستغلال لا يقتصر على المحطات العارضة طبعاً فأهل المواهب شركاء فيه بشكل أو بآخر, وهنا لا ندعي حرصاً أكبر من قبلنا على طفولة أبنائهم, لكن الرؤيا قد تكون أوضح بعيداً انعكاسات أضواء الشهرة. وإن  تأكيد الأطفال في جميع المناسبات على متابعة تحصيلهم العلمي بشكل جيد وقدرتهم على التنسيق بين الحفلات والظهور التلفزيوني وبين دراستهم لم يُزل الشكوك حول قدرة جميع الأطفال على هذا الامر الذي لا يعدو عن كونه مجرد “كليشيه” مكرر لسنا مضطرين لتصديقه دائماً.

 

مواهب خارج برامج المسابقات:

التمثيل هو أبرز هذه المواهب, فكثير من الممثلين الحاليين قد أظهروا موهبتهم في عمر صغير منهم “قيس الشيخ نجيب- ندين تحسين بك- تولين البكري-طارق صباغ” وغيرهم الكثير, ظروف العمل رغم وحدتها لحد ما, إلا أن دخول مواقع التواصل الاجتماعي في خصوصيات الفنان تجعلنا نتساءل عن مدى إمكانية حماية الأطفال من التأثيرات السلبية للأمر, ناهيك عن عمل يتناقل الفنانون مقولة بأنه ثاني أصعب مهنة في العالم, وفي دراما تذخر بمسلسلات تحدثت كثيراً عن عمالة الأطفال وسلبياتها, فهل استطاع القائمون عليها حماية الأطفال فيها بتحديد ساعات عملهم وظروفها, وحتى انتقاء ما يناسب وجود أطفال في أعمال معينة ضمن مشاهد قد تكون معدة فقط للكبار!!, الإجابة لا يملكها إلا من يستطيع الاطلاع على ظروف التعاقد.

لهيب الأضواء عندما يُذيب البراءة:

أسماء كثيرة وجدنا أنها قد ظهرت بمظهر طفولي عفوي بريء في بداية الأمر ثم تحولت لطفل آلي يكرر ما يتم تلقينه إياه, ويتقمص شخصية كبار الفنانين على المسارح وفي المقابلات ليفقد طفولته رويداً رويداً ويتحول لإنسان مُنتِج –وفق ألطف تعبير عن الأمر- في عمر يحتاج فيه أن يعيش طفولته بشكل اعتيادي دون مضايقات المعجبين أو حتى صدمته عندما يلتقي أشخاصاً قد لا يعرفونه-. الطفولة المفقودة واحدة سواء كان الطفل “نجماً” أم بائعاً متجولاً, ففي الحالتين يحمل الطفل هموماً لا تناسب عمره رغم اختلافها  وهنا يتحقق الضرر المحقق لوصف العمالة, فالأضواء التي ستعمي الطفل عن صورته الحقيقية ستجعله يلاحق ظلاً رسمتها له, الظل الطويل سيتماهى به ومعه وسيظنه انعكاسه, لنفقد البراءة التي تم التغني بها بداية انطلاقة الطفل!

ويكبرون …

استغلال مواهب الأطفال أمر طبيعي ومنتشر على مستوى العالم, وهو أمر مطلوب وحق من حقوقهم, لكننا نريد أطفالاً لا “مكنات” جمع للنقود والمتابعين باسم البراءة والطفولة, مواهب تعمل على تحقيق لأحلامها لا “عمالة” مستترة ومغلفة بالنظافة والبراءة والضحكات,  نريد إثباتاً لحسن النوايا في نشر المواهب, لا نريد جيلاً من الممثلين والمغنين فحسب, فكم من الاطفال قد يهمل شغفاً في نفسه عندما لا يرى دعماً لمواهب فنية أخرى كالرسم والأدب, ومواهب علمية لا يكشفها إلا دعم وتحفيز وإثارة لحب الفضول والاستكشاف, أمر تحقق قبل عشرين عام في برنامج “زينة الدنيا” الذي قدمه الإعلامي “توفيق الحلاق”, وإن لم نعد نستذكر الأطفال الذين تمت استضافتهم فيه , إلا أننا وفي زمن “السوشال ميديا” بإمكاننا إعادة إنتاجه بما يناسب هذا العصر وبما يليق بالطفولة المنسية في هذا فيه!