«شتي يا بيروت».. جفاف الإبهار بعد مطر التشويق

بقلم: أنس فرج

ترتبط المدن بمناخاتها، فتروي الفصول قصصاً عن أهالي المدينة، حياتهم اليومية، المفارقات التي يعيشونها والصدمات أمام واقع متبدل يحتاج شخصيات مرنة تعرف كيف تتأقلم دون أن تتغير أو تنقلب إلى النقيض.


في “شتي يا بيروت” محاولة لقراءة الواقع السوري واللبناني بصيغة مشتركة تجمع عدة قصص تتقاطع مع علاقة الجغرافيا بين البلدين المتمثلة بالحدود البرية والتي كانت في السنوات الأخيرة خير شاهد على آثار الحرب في سوريا وانعكاساتها على المنطقة بما فيها من تدفق اللاجئين وخطوط التهريب، ليصبح المشاهد شاهداً على حالة حقيقية موجودة فعلاً بين سوريا ولبنان.

الشتاء المبشّر:

رغم أنّ الحكاية تحمل الشتاء في اسمها، إلا أنه لم يقدّم أي مبرر واضح لذلك، فجاء الاسم بعيداً عن سياق الأحداث خاصةً مع انطلاق القصة من سوريا في بداية الحلقات والتي حملت الجزء الأكبر من التماسك، ليكشف إيقاع الحلقات الأولى عن كم كبير من الأحداث وخطوط الشخصيات.


هكذا وجدَ الجمهور نفسه أمام حكاية مختلفة منذ البداية وأخذ نفساً عميقاً ليصدق أنّ الدراما المشتركة قادرة على تقديم صيغة أقرب إلى الواقع الاجتماعي حين يتوفر نص مقنع وإرادة إنتاجية لذلك، لتفتتح حكاية بلال شحادات بداية مسارها من مكان غير محدد في سوريا تبيّن تفاصيله أنه قرية وعلى الأرجح حدودية لسهولة الوصول إلى الحدود والانتقال بين سوريا ولبنان على مدار الحلقات، مع تواجد أكثر منطقية من ناحية توزع الممثلين في العمل وفقاً لجنسياتهم.

إذ يحمل المسلسل خطين سوري ولبناني يتقاطعان معاً فيما بعد إلا أنّ كلّ خط يحافظ على خصوصيته إلى حدٍ ما مع تفاوت بالأداء ومنطقية الطرح، إذ يظهر خط الأحداث اللبناني أكثر انسجاماً مع التداعيات المحلية لانهيار الاقتصاد المحلي والنزيف الاجتماعي الناتج عن مشاكل الفساد الإداري إلى عصابات التهريب والفقر المتفشي في المجتمع اللبناني الذي يدفع البطلة “نور/ زينة مكي” للعمل في الدعارة لأجل تأمين كلفة عملية جراحية لوالدها المصاب بالزهايمر

الربيع البارد:

مقابل ذلك يبدو الخط السوري أقرب للفانتازيا مع التركيز على قصة الثأر التقليدي بين أولاد العم وإن كانت بعض مظاهرها مستمرة لليوم إلا أنّ تحويل مسار شخصيات العمل الرئيسية لتدور في إطار الثأر طيلة أحداث المسلسل أضعفَ من قوة الخط الدرامي السوري وجاء على حساب إمكانيات الممثلين السوريين ضمن العمل.


إذ نشهد على مدار الحلقات الثلاثين حالة من الأخذ والرد المتواصل بين “منّاع/ رامز الأسود” وبطل الحكاية “عبدالله / عابد فهد” من حوادث خطف إلى تهديد وتعذيب وإطلاق نار وإصابات وصولاً إلى نهاية وقعت في فخ الحلول الجاهزة بعد خسارة الطرفين للعديد من الشخصيات المحيطة بهم، فكان الموت في سياق الأحداث حدثاً متكرراً لم يأتِ بشكل مقنع في كثير من الأحيان وكأنه أسهل طرق الهروب بطريقة غير مباشرة لإنهاء قصص الشخصيات إلى جانب التركيز على حضور الطفل “أيوب/ حسن مرعي” بشكل مقحم في بعض المشاهد رغم أهمية طرح الشخصية كطفل مصاب بمتلازمة داون ويعاني من صعوبات في النطق

الصيف الهادئ:

وحيث أتيح للمسلسل الامتداد لثلاثين حلقة جاء الإيقاع متبايناً مع انطلاقة مشدودة للعمل كشف فيها الخطان الرئيسان للحكاية عن مشكلات الأبطال والهموم التي يعاني منها كل من “عبد الله” و “أماني/ إلسا زغيب” وما يحيط في عالمهما من شخصيات رئيسية وثانوية.


ويحسب للنص دخوله في تفاصيل الشخصيات الثانوية ليعرض نماذج متعددة من الشارع مثل بائع السيديات المتحرش، والرجل العاطل عن العمل الفاشل في إدارة حياته الزوجية، والفراغ العاطفي في حياة المرأة بعمر الثلاثين، وهنا جاءت الخطوط الثانوية في خدمة المحور الرئيسي للعمل الذي يقود لالتقاء “عبد الله وأماني” وزواجهما في الحلقة الأخيرة من المسلسل بعد قصة طويلة من اللقاءات والمواقف لم يعبّر فيها عن الحب بشكل مباشر كما يحدث في المسلسلات المشتركة الأخرى، فـ “أماني” في حياة “عبدالله” هي منقذة حيناً وسبباً في ورطات حيناً آخر، وكذلك “عبدالله” المتمرد على عقيدة الثأر في بداية الحكاية ثم العائد لدوامتها بقدميه ليشير العمل إلى لعنة الموت التي تنتقل من الآباء إلى الأبناء


التماسك في علاقات الشخصيات فيما بينها ظهر أكثر في الخط اللبناني، فبدَت العلاقة أكثر وضوحاً بين “أماني ونور” أمام ثنائية “عبد الله وعبد القادر”، حيث صنعت مشاهد الصدمات في حياة الشقيقتين ووفاة والدهما ومعرفة “أماني” بحقيقة عمل “نور” تصعيداً أكثر في الحكاية من مشاهد الشجار والصدام بين “عبدالله” و “عبدالقادر”، كما ظهرت الرومانسية في قصة “نور” مع “عاصي/ جيري غزال” والفشل الزوجي في قصة “أماني” مع “توفيق/ عبدو شاهين” بشكل أكثر متانة، بينما بقي خط العائلة السورية تائهاً في نفس الدائرة، بين الخطف والقتل والثأر والنيران المتبادلة، وببعض الأوقات بشكل مبالغ به

الخريف الجاف:

خصوصية الحكاية في الحلقات الأولى من العمل رفعت منسوب التشويق لمشاهدة قصة مختلفة وجديدة في إطار الدراما المشتركة، بدءاً من ظهور الفنانة السورية ديمة بياعة كضيفة شرف لحلقة واحدة فقط، مع وجود تحدي في التمثيل بين جيل الفنانين الكبار مثل فايز قزق وأمانة والي وعمر ميقاتي وإسكندر عزيز وجناح فاخوري، وجيل الممثلين الشباب كإيهاب شعبان ولين غرة وزينة مكي.


لكن سياق الأحداث فيما بعد والذي دخلَ بمرحلة صادمة من الترهل جعل الخطوط تفترق وتتحرك بشكل فردي على حساب النص الذي جمع كافة الشخصيات مكانياً ولم يوفق في بناء التصاعد الدرامي لكافة العناصر، حيث يغيب ممثل لعدة حلقات دون معرفة ماذا يجري معه لصالح حدث رئيسي يسيطر على عدة حلقات. وهذا ما خلخل إيقاع المشاهد وجاء عكسياً معطياً المجال لظهور قدرات ممثلين أكثر من غيرهم، ولم يوفق إخراج إيلي السمعان بصناعة حالة من الإشباع لكثير من مشاهد “الماستر”، فكان مشهد وفاة والد نور وأماني أقرب إلى فيديو كليب، ولم يعرف الجمهور كيف انتحرت “يم / لين غرة” بل وجد الدماء في البحيرة فقط دون آلة حادة أو سكين أو مشرط، فكانت بعض المشاهد أقرب إلى السريالية من كونها حقيقية.

وفي حلبة التحدي الدرامي بدا “شتي يا بيروت” مسلسلاً بدأ بتشويق عالٍ وانتهى بمسار متوقع في ضعف ببناء الحلول المقنعة، وكأنّ الهم المشترك بين السوري واللبناني سُلط عليه الضوء أخيراً في الدراما المشتركة لكن الضوء انقطع في منتصف النفق وبقي الطريق مجهولاً حاله حال أبناء البلدين في أفق الحلول الضائعة.

ألصور بعدسة المصور حسن فخر الدين