في «ستون دقيقة».. من يحرم الآخر حياته؟!

بقلم: محمود المرعي

تتغيّر طريقة تقديم النص الدرامي يوماً بعد يوم بما يتناسب مع حالة السّوق، رغبات الجمهور، اختيارات الممثلين، طريقة تفكير الكتّاب سواء أكانوا قدامى أم جدُد، فقد تُعطي شركات الإنتاج كل هذه الاعتبارات اهتماماً وقد تتجاهلها دفعة واحدة، ومهما لعبت تلك الشروط بالنصوص وتدخلت في مضمونها نرى بأنّ الأعمال تتوجه نحو الدراما النفسية وبصرف النظر عن السبب المباشر لذلك، فقد شاهدنا سابقاً “قيد مجهول”، و “في كل أسبوع يوم جمعة” ، والآن ستون دقيقة من بطولة محمود نصر، ياسمين رئيس، شيرين رضا والكبيرة سوسن بدر.

60 دقيقة .. الطّبيب بحاجة إلى علاج:

طرح العمل وعبر حلقاته التسع قصّة الطبيب المشهور والمرموق “أدهم نور الدّين” لديه منصبه الاجتماعي والمهني، يظنّ ووفقاً لبرمجات والدته وطباعه السادية أنّه الأفضل والأجدر فاستطاع في الحلقات الأولى من المسلسل أن يوهم المشاهدين بأنّه كذلك فعلاً، وأن ما يوَجّه إليه من اتهامات بالتحرش والدناءة ما هي إلا إشاعات ينشرها أناسٌ يخافون نجاحه، وما زاد وهم المشاهد وهماً هو أنّ هذا الطبيب يحمل في جعبته كيساً من الحُجج المُقنعة يخرجها واحدة تلو الأُخرى ليُلغي وبدراسة نفسيّة واحدة أنّه المجرم الذي يغتصب النساء والفتيات اللواتي تتردّدن إلى عيادته إيماناً منه أنّه الفرصة الذهبية لهُنّ لاكتشاف أنفسهنّ وأنّ الحب هو الألم فلا يستمتع بالعلاقة الجنسية والعاطفية إلا إذا كانت مؤطرة بالعنف النفسي والجسدي في آن معاً، وإن كانت اغتصاباً فهي “عز الطلب” فاستطاع محمود نصر أن يقدم جميع تنقلات الشخصية المريضة والطبيبة في آن معاً.

محمود نصر بوّابة العمل:

بمنعزل عن قصة العمل ورؤيته الإخراجية وطريقة تقديم نجومه لشخصياتهم، يبدأ العمل بقلقٍ من الجمهورين السوري والمصري،
الأول يخاف على أحد نجومه ومواهبه الشابة الذي سيُطل للمرة الأولى بلهجة مختلفة، اللهجة المصرية التي تشكّل تحدياً، والثاني يخاف على لهجته من الضياع على لسان ممثل من جنسية أُخرى تحديداً وأنّه بطل المسلسل فكيف سيستمر بمتابعة مسلسل يقوم بطله بتشويه لهجته؟

سيكون الأمر في غاية الصعوبة مهما كان النص متيناً ومتماسكاً، لكن، ومنذ اللقطات الأولى عَبَرَ محمود نصر بوابة العمل ودخل إليها دخولاً طمأن فيه الجمهورَين، فكان مفاجأة لهما بإتقانه للهجة المصريّة في أول تجربة له، مع استكشاف لهمسٍ جديد في صوته لم يكُن في أعماله السابقة.

ياسمين رئيس عدّة نساء بامرأة واحدة:

تحاول النساء في مجتمعاتنا إرضاء جميع الأطراف ضمن دائرتهن الاجتماعية، تارة يحاولن إرضاء عائلتهن، وتارة يحاولن إرضاء عائلة أزواجهن، ومرة تنجح المرأة في إرضاء شريك حياتها، وعشرات المرات تُخفق في إرضاء نفسها لكن هذا ليس بتلك الأهمية إن استطاعت أن تكون مثالاً لأم يُحتذى به، وهذا ما حاولت أن تصنعه “ياسمين الشيال” زوجة الطبيب “أدهم نور الدين” خريجة كُلية التجارة التي عانت من فارق طبقي إضافي يظنُ الأطباء من خلاله أنّهم المهنة رقم واحد في قائمة المهن وهذا ما جعلها تُشكّك بآرائها حول زوجها وعائلته وما يُقال عنه من مبدأ أنّها الأقل في التحصيل العلمي.

ظهر الإنهاك والتعب على طريقة ياسمين في المشي ونظراتها وبساطتها وعدم استخدامها لمساحيق التجميل بكثرة إلى أن اشتد عودها في الثُلث الأخير من المسلسل لتتحول من امرأة مُتعبة إلى امرأة قاتلة دُفعة واحدة! نفرَت دماء زوجها على فستانها المُورّد، فاستطاعت ياسمين رئيس تقديم عدّة نساء في امرأة واحدة.

ستون دقيقة وعقارب الزمن:

إذا ما اعتبرنا أنّ عقرب الساعات هو “النص” وعقرب “الثواني” هو الإخراج فإننا بهذا قد نكون أمام فرضيّة منطقيّة إلى حد ما بحيث كان النص يمشي ببطء شديد في بعض الأحيان فحلقةٌ تكشف لنا الكثير من الحقائق، وحلقةٌ تعبثُ بتوقعاتنا وتضربها يميناً وشمالاً وقد يكون هذا البطء مقصوداً من قِبل الكاتب “محمد هشام عبيه” الذي يتمتع بجرأة كبيرة كونه رجلاً يُدين ويُحاكم رجلاً مثله عبر النص الذي قدّمه لنُصرة المعنّفات من النساء وهذا قد لا يحدث كثيرا في الدراما العربية وحريّ بنا ذكر المسلسل السوري “رجال تحت الطربوش” الذي كتبه “فؤاد حميرة” وأخرجه الكبير”هشام شربتجي”.

في 60 دقيقة استطاع كاتب العمل ومخرجته “مريم أحمدي” من خلال حلولها الإخراجية ورؤيتها لتفاصيله تطويع الزمن لصالحهما ولصالح الشخصيات وتحقيق توازن ما بين العقربين.

المحكمة في الدراما المصريّة تُصيب وتخيب:

تقول ياسمين: “هو ده القانون بس مش هو ده العدل” علماً أنّها قتلت زوجها وعن سبق الإصرار والترصد، لكنّ خفايا الحكايا لا يستطيع القانون استدراجها إلى منصّة المحكمة فالمُفتي قد حكم عليها بالإعدام شنقاً بعد محاولة المحامية “ليلى” التي قامت بدورها الفنانة “شيرين رضا” للدفاع عنها بكل الأوجه مستخدمة فصاحتها وحججها وحتّى حساباتها على مواقع التّواصل الاجتماعي لنصرة ياسمين ولكنها تفشل.

وذلك على عكس المحامي في مسلسل “قضية رأي عام” الذي استطاع نصرة الحق بتجريم المغتصبين وجلب حكم الإعدام لهم وكذلك الحال في مسلسل “الطاووس” حين استطاع المحامي “كمال الأسطول” الدفاع عن موكّلته التي تم اغتصابها من قبل ثلاثة شبّان ولكن وللأسف بالتلاعب على القانون فقد وجد بهذا الحل الوحيد لنُصرتها.

في مسلسل “مع سبق الإصرار” استطاعت المحامية “فريدة الطوبجي” التي كانت الموكلة والموكل إليها أن تجلب حكم الإعدام للرجل الذي قتل ابنها، ولم يستطع مدرس اللغة العربية “عبد الحميد” أن يجرم نفسه بدلا عن ولده في مسلسل “حضرة المتهم أبي”، أعمال لنجوم كبار انتهت بالنطق بالحكم مرة لصالح الشخصية ومرة ضدها، وكذلك هو الحال بالنسبة للحياة قد تتحول الضحية إلى جلاد وقد يحدث العكس وكل ذلك تحت سقف القانون الذي لم ولن يرتبط بالعدل دائماً.

دراما الطب النفسي.. سمة الاختلاف والحذر:

لا بد أننا شاهدنا في الأعوام الفائتة العديد من الروايات النفسية في قصص درامية، إلا أنّ القلق كبير من قبل الاختصاصيين في أن تكون هذه الأعمال قد شوّهت صورة الطب النفسي خاصةً مع تركيز بعضها على الاضطرابات النفسية على أنّها “جنون”، والتعامل مع ذلك دون مراعاة حالة المشاهدين أو ذويهم إذا ما تلقوا هكذا تصوّر وتحوّل في ذهنهم إلى صورة نمطية، فقد أخطأت عدة لوحات في مواسم “بقعة ضوء” مثلاً في التعامل مع الأزمات النفسية ووضعت الطبيب النفسي أو الأخصائي في مكانٍ خاطئ.

المقاربة بدت مختلفة في “ستون دقيقة” مع اعتماد العمل بجزء كامل من حكايته على عيادة الطبيب “أدهم”، بل حتى في كون الشخصيات النسائية البارزة في العمل هنّ مريضات لدى الطبيب، وهنا كان التحدي الأصعب لدى الكاتب محمد هشام عبية في تقديم صورة مدروسة بعناية لحالات الاضطراب النفسي على تنوعها وضمن الأمثلة التي قدمها وحساسية طرحها على لسان شخصيات نسائية، لذا بدت الممثلات وكأنهن ضحايا فعلاً لحالات من التحرش والابتزاز الجنسي، قاد ذلك النص المتين والانفعالات المدروسة التي أدارتها المخرجة مريم أحمدي لتظهر التوترات الداخلية لضحايا التحرش والاغتصاب والخط البياني للانفعالات الذي قد يؤدي إلى الانتحار.

أخيراً .. يخرج “ستون دقيقة” كعمل درامي مختلف عن سرب ما تقدمه المسلسلات القصيرة وخاصة التي أنتجتها شركة “الصباح”، لذا كان الاختبار مضاعف في نجاح المسلسل كونه صوّر خارج بيئته في بيروت بشكلٍ كامل، وهنا كانت العناية بالتفاصيل لإظهار المناخ العام مطابقاً لمكان الحدث على الورق وتغليب التفاصيل المهمة من رمزية البيوت المصرية والديكور على البذخ والاستعراض الذي عادةً ما يظهر في هذه النوعية من الأعمال، ليكون المسلسل جملة من التحديات في طريق المخرجة الشابة والكاتب المناصر للمرأة والنجم السوري في اختبار اللهجة والسوق المصرية وللممثلين جميعاً في نحت شخصيات مضطربة في دائرة نعاني منها جميعاً تتقاطع في محيطها اللامتناهي مع ساعة الزمن الدائرية “ستون دقيقة”.