رضوان نصري، مَن باحَت صوره اللّحنيّة بآهاتنا المكتومة

حاوره: جواد البعيني

موسيقار أنصفَ بجمله اللّحنيّة دمشق وقصيدتها في “نزار قبّاني”، ليمرَّ بكَ عبر مؤلَّفاته طيف دمشق الآمنة، القويّة لو كانت في “عناية مشدّدة”، فهو الأمين على بيئتها “كخاتون” ترعى “وردة شاميّة” في “طالع الفضّة”. بموسيقاه التصويريّة نُمسكُ بلحظة هاربة من “أيامنا الحلوة” “كرحيل إلى الوجه الآخر” من “زمن العار” الذي أُشعِلت فيه “المصابيح الزرق” على أيدي “رجال تحت الطربوش” فتلاشى “ظل امرأة” تكتبُ “الوصيّة” لأبنائها الّذين ينموون “كورود في تربة مالحة” بانتظار “يوم ممطر آخر” “وشاءَ الهوى” أن تلتهمَ أحلامهم وآمالهم “الغرابيب السّود”.

ضيفنا اليوم أشعل الغَيرة على ألحان الرّاي في “جميل وهناء” مُشتقًّا من المدرسة الغجريّة إيقاعات هيّأتنا لاستقبال الكوميديا في “عائلات ستة، سبعة، وثمانية نجوم”. نوتاته “كالأميمي” توقّدُ نار شوقنا إلى “أيام الدراسة” عندما كانت لنا “قلوب صغيرة” لاتعي “أسرار المدينة” وقسوتها في “كسرالخواطر”.

“بتختٍ شرقيّ” ألهب عواطفنا “على صفيح ساخن” فأطلقنا عبر مقاماته “صرخة روح” على حاضر أصَمّ “كانتقام الوردة” لرغباتها غير المُحقّقة في واقع لوِّن بريشة الرّحيل، الوجع، الحبّ، والأمل ضمن “بورتريه” مُبدعُهُ “بطل من هذا الزّمان” مفاتيحه الموسيقيّة “كسلاسل ذهب” اسمه: رضوان نصري.

أستاذ رضوان أهلًا وسهلًا بكَ في منصّةETSyria ، بصراحةِ أجوبتك المهنيّة، البعيدة عن الشّخصنة ولو تمّت فيها التّسمية، سنبدأ حوارنا معك …

لموسيقاكَ أثرٌ نفسيّ يذهب بالمُستمِع إلى الأقصى في الحالة الشّعوريّة التي تريد إيصالها، على ماذا بُنيَت ذاكرتك الانفعاليّة في تأليف الموسيقا التصويريّة والشّارات؟

ابن البيئة والبحث الدّائم عن النّظريات الجديدة، ولا يقتصر معنى البيئة هنا على المكان فقط، إنّما يشمل أيضًا ما تراكم في مخزون  المؤلِّف من أناسٍ صادفهم في حياته، تحليله النّفسيّ لهم، وسماعه لما يقولونه بصمتٍ، فالصمتُ إحدى أهمّ أدوات المؤلِّف الموسيقيّ، أنا أُشبِّه كلّ إنسان أقابله بآلة موسيقيّة معيّنة، وأبقيهم في ذاكرتي حتى يحين الوقت، فأترجم ما وصلني من أحاسيس قيلت أمامي كلاميًّا، إلى لغة موسيقيّة متناسبةً مع أفكار، شخصيّات، ومناخ العمل الدراميّ، محاولًا بذلك إيصال الحميميّة في اللّحن الذي أقدّمه إلى المُستمِع، لأنّ هذا اللّحن في النهاية قد أَخَذَ قوامَه النفسيّ من المُستمِع نفسه، من شخص يشبهه، أو من صديق له، هكذا برأيي تُبنى الذاكرة الجمعية في الموسيقا عامةً، والتّصويريّة منها خاصّةً. 

ما الفرق بين الموسيقا التّصويريّة والموسيقا التّزينيّة في شارات العمل الدّراميّ؟

بمنتهى البساطة، التّزينيّة هي أغاني جميلة، تحفظها لوقتٍ مؤقّت، ذاكرتها قصيرة، أمّا الموسيقا التّصويريّة فذاكرتها طويلة الأمد بدءًا من الكلام مرورًا باللّحن المُصمَّم لصوتٍ مُعيَّن، وانتهاءً بصوت مؤدِّي الشّارة الذي حُبِكَت هذه الشّارة على مقاس إحساسه. حتى الأصوات الغنائيّة هناك صوت تصويريّ وآخر لا يصلح لغناء شارات الأعمال الدّراميّة، وعلى المؤلِّف الموسيقيّ أن يكون حذِرًا في حال تم اختيار مغنّي نجم لأداء الشّارة الدّراميّة، وألّا يسمح لهُويّة النّجم أن تطغى على هُويّة العمل الدراميّ وشارته، كي لا تتحوّل إلى تزينيّة أو أغنية نجم.

على ذكر النّجوم، هل هذه التِترات تصويريّة، أم أغنية نجم فقط؟

كلنا مننجر – شارة مسلسل الداون تاون – وائل كفوري؟

أغنية نجم فقط.

بيختلف الحديث- شارة مسلسل 2020- زياد برجي؟

أيضًا أغنية نجم.

أوقات – شارة مسلسل للموت – ناصيف زيتون؟

 أغنية نجم.

هذه الشّارات هي أغاني مؤلَّفة من (مذهب- كوبليه – مذهب – كوبليه)، الأغنيّة التّصويريّة لا يوجد فيها مذهب ولا كوبليه.

ما قوام الأغنيّة التصويريّة؟

التصويريّة قوامها ملحميّ، بداية ونهاية بلا تَكرار وتشابه بينهما، كلّ مقطع يختلف عمّا سبقه، تنقلُ فيه المُستمِع من مناخٍ إلى آخر، وهذا يتطلّب ذاكرة حاضرة، روح المغامرة والتّجريب بلا خوف، وحبّ استعراض المخزون، وذلك كي لا تلجأ كمؤلِّف موسيقيّ إلى تَكرار اللّحن فتتحوّل الشّارة في النّهاية إلى أغنية فقط، قد تكون أغنية رائعة لكنّها في هذه الحالة بعيدة كلّ البعد عن مفهوم الأغنية التّصويريّة.

بعين الناقد الدّراميّ قلتَ: “الدّراما السّوريّة من أزمة النص، إلى أزمات كثيرة، أخشى أن تتحوّل إلى أزمة فقط.” ما رأيك بالعقول الإنتاجيّة في الوقت الحاليّ؟

تقصد بغياب هذه العقول حاليًّا، سابقًا كان المُنتج هو المُسيِّر الحقيقيّ للعمل، من ألفه إلى يائه، يساهم فكريًّا بالكتابة، بصريًّا في الإخراج، أما الآن المُنتج هو تاجر يعرضون عليه العمل ويقولون له: “بيّاع”.

بعد أن صنعْتَ موسيقاه، ما رأيكَ الشّخصيّ في سجال ما بعد عرض الكندوش؟

سأكون موضوعيًّا، وأقول بكلّ حياديّة: الكندوش هو عمل سرديّ، بلا أحداث أو نقاط تحوُّل تُذكَر، قصة يوميّة زمن عرضها كان من المُفترَض أن يكون منذ خمسة عشر عامًا أو أكثر، لكنّه في الزمن الحاليّ لا يصلح كعملٍ دراميّ، وفي نفس الوقت وُعِدَ المشاركون في العمل بإعادة بناء النّص من قبل المخرج، وقد أُخِذَ من الوقت حوالي الشّهرين لذلك، ولم يتم أي تعديل مؤثِّر على البناء الدراميّ للنص.

هل يشمل ماراثون ” قرّب رمضان ولازم ننجز بسرعة” صناعة الموسيقا التصويريّة؟

بالطبع، ففي الموسم الماضي تعاقدوا معي لتأليف موسيقا مسلسل (على صفيح ساخن) قبل بدء رمضان بشهر تقريبًا.

الأغنية الوطنيّة الحديثة في عناية مشدّدة … بعد أن قدّمت القصيدة الدمشقيّة في نزار قبّاني، ويمرُّ بي طيفها في عناية مشدّدة، ما هو العنصر الأساسيّ المفقود في الأغنيات الوطنيّة الحديثة؟

غياب العاطفة الحقيقيّة ومخاطبة الوجدان الوطنيّ على حساب ظهور الهيجان الموسيقيّ وتثوير الجماهير إيقاعيًّا تحت مسمّى الموسيقا الوطنيّة. إذا قمتَ بتحليل الأغنية الوطنيّة التي عاشت في ذاكرة الجمهور، ستلاحظ اختلافًا كبيرًا في بناء هذه الأغنية عمّا يتم تقديمه حاليًّا، ومشكلتنا الكبرى بشكل عام هو افتقادنا لعنصر التّحليل الموسيقيّ.

وأغنية “اتجمّعوا” لناصيف زيتون؟

لم أسمعها.

حسنًا، سأعطيكَ هذه الكلمات لتضعَ لها لحنًا كأغنيّة وطنيّة: اتجمّعوا، اتجمّعوا، كرمال سورية تعوا… طلاع يا سوري طلاع عَ السما ورجاع.

ألم تلاحظ وأنت تردّد هذا الكلام، بأنّك تقول مفردات خفيفة لن تلمسني بها!

بين إحياء التّراث وتشويهه تكّة موسيقيّة… ما رأيك بانتشار ظاهرة إحياء الفلكلور السّوريّ (التراث الغنائيّ) بإعادة توزيعه؟

إعادة توزيع التّراث هو عُكّاز الفنان الفارغ، الهارب من العبقريّة، وغير القادر على الابتكار.

لماذا لا نعتبره نوعًا من التوثيق الموسيقيّ؟

توثيق؟ يجب أن تُغنّى كما هي بحذافيرها، هل أستطيع استبدال أحد عواميد تدمر بعمود كريستال وأقنعُكَ به على أنّه تاريخ!

هل كانت فرقة «تكّات» أمينة على التراث عند إعادة إحيائه؟

بالطبع لا، هي حالة آنيّة، بعد فترة من الزّمن ستصاب بالملّل من نمطيّتهم، قد يتغيّر شعورك نحوهم في حال تغيّرت الحالة كلّها، ولكنّني مع حالة تكّات في الوقت الحاليّ لقلّة الخيارات أمامنا، فنحن مضطرون لسماع الأفضل لو كان يتخلّله الكثير من السّوء.

بعدما تحوّل الإحياء إلى تشويه في الكثير من المشاريع الموسيقيّة، ما هي خطتك  المُتبعة لإحياء أغاني وطنيّة قديمة في مشروعك الجديد مع شام أف أم؟

سأكون أمينًا بالتّصرُّف الموسيقيّ، محافظًا على اللّحن، الكلام، وعلى الإيقاع وحالته.

وبعد أن تم التعاون مع معين شريف في ” يا سورية عزّك دام” ومع ملحم زين في “هي يا شام”، مَن ستختار من الأصوات السّوريّة للمشاركة في هذا المشروع؟

إلى الآن لا يوجد صوت سوريّ مُرشَّح لذلك.

مشروع موسيقيّ سوريّ، ولا صوت سوريّ في قائمة الترشيحات إلى الآن!

للأسف، لا يوجد حاليًّا نجم سوريّ قادر على أداء هذه الأغاني، ليحملها بصوته عربيًّا.

بما أنّنا نتحدث عن الأصوات السّوريّة، ما الذي ينقص المغنّيات السّوريّات الأكاديميّات كي يخرجْنَ من فقاعات الصّابون الموسيقيّة في مشاريعهنّ الخاصّة؟

أن يكنَّ أكثر جرأةً وابتكارًا، العثور على الاختلاف، والتخلُّص من التّشابه الكبير في نمط أعمالهنّ، وهناك مشكلة لا علاقة لهنّ بها وهي الإعلام المحليّ غير المواكب، والمنابر الإعلاميّة غير المؤهّلة لإطلاق نجم أو نوع موسيقيّ كالتي توجد في لبنان مثلًا.

من عشرة، ضع علامة يستحقّها إعلامنا المحليّ على دوره في دعم المُبدعين والتّرويج لهم.

أعطيه 2 من 10، إعلامنا لا يهتمّ إلّا بمَن يظهر على الشّاشة فقط

ولهذا السّبب أنت غائب عن اللّقاءات التّلفزيونيّة السّوريّة؟

للكثير من الأسباب أيضًا، قلّة المحاورين الأكْفاء الّذين يمتلكون أسلوبًا جاذبًا للمُشاهِد والضيف. أحيانًا وبعد الكثير من الأسئلة المُكرّرة التي يتم سؤالي عنها في كلّ لقاء، أنا مَن أقوم باستجرار المذيع لأعطي روحًا للحوار.

بين الشّعبيّ والمهرجانات… ما تعليقك على حال الأغنيّة الشّعبيّة السّوريّة الحديثة؟

الغناء الشعبي من أصعب الأنماط الغنائيّة، فهو ليس حكرًا على فئة معيّنة من الجمهور، بهِ تخاطب شعبًا كاملًا بمستوياته الثقافيّة المختلفة. أمّا عن حاله في سورية، فالغناء الشّعبي انتهى عند وفاة الفنان الرّاحل فؤاد غازي، وكلّ ما يُقدَّم في الوقت الحالي باسم الشّعبيّ هو مهرجانات لا أكثر.

بناءً على التريند الغنائيّ المحليّ والعربيّ؛ ما هي أبرز ملامح الذائقة الفنيّة الموسيقيّة الحديثة؟

للأسف الذائقة الحاليّة بلا ملامح تُذكَر، لأنّها لا تحمل هُويّة موسيقيّة، غنّى فلان الشّعب كلّه يسمع فلان، غنّى آخر الكلّ يسمع له أيضًا، وهي ظاهرة حديثة العهد، ونتيجة منطقيّة لغياب التثقيف الأدبيّ والفنيّ وغيره، فتحوّل الفن إلى مادة استهلاكيّة لسدّ الفراغ الكبير في فكر ونفسيّة مَن يتذوّقه ويستسيغه.

بعد الكثير من الواقعيّة الفنيّة السّوداء، سنذهب معكَ إلى “لو” الفرضيّات البيضاء.

لو كنتَ نقيبًا للمهن الموسيقيّة في سورية، ما هي أهم الخطوات التي ستقوم بها؟

الإصرار على ضرورة إحداث وزارة خاصّة للموسيقا، تهتم بالاستثمار الموسيقيّ الصحيح، ويوجد في سورية أشخاص قادرون على إدارة شؤون هذه الوزارة. ويجب أيضًا استقدام خبرات موسيقيّة أجنبيّة والاستفادة منها في قطاعات تعليم الموسيقا والغناء، لأنّه لا يمكنك أن تصنع موسيقا في واقع لا يوجد فيه مَن يدرِّسها كما يجب.

عشقك لكرة القدم كبير، وتقول لكلّ لاعب ناجح إيقاع موسيقيّ منتظم، لو كنتَ الحكم الموسيقيّ، لمَن تعطي البطاقة الحمراء، ومَن تُنذرهُ بالصّفراء على النّطاق المحليّ أو العربيّ؟

الحمراء لمطربي المهرجانات في مصر وما وصلوا إليه من الحضيض الموسيقيّ، أما الصّفراء فأعطيها للمطربين السّوريين العابثين بتراثنا الغنائيّ، والمشوِّهين لمفهوم الأغنيّة الشّعبيّة.

كان معنا المُتجدِّد بلا نمط أو قالب ولكن في كلّ عمل من أعماله بوصلة تدلّك عليه، مَن خدَّم أصوات النجوم لإيصال روح وهُويّة الشّارة الدراميّة، كإحساس ومدى صوت آدم، دفء معين شريف، رنّة ملحم زين، وجموح صوت أصالة نصري، هو مَن جمع بين آهات ميس حرب وحِدّة صوت ريان، مصوِّرًا بعلاماته الموسيقيّة الهَمّ بصوت نوال سمعان، والغُصّة بأداء محمد مجذوب، ليقولَ عبر مؤلَّفاته الموسيقيّة: “أنا عربيّ، أعشقُ شرقيتي، ومهما تغرّبت جملتي، أعودُ بها إلى أصالتي.”