وفاء موصللي.. ابنة زمن المبدعين تعيدنا إليه

حاورها: جواد البعيني

مِن طفلةٍ صنعَت لعرائسِها مسرحَهم الخاص خلفَ طاولةٍ منزليّة، مُعطيةً لكلٍّ منها طابعًا خاصًّا في حكاياتٍ صاغها خيالها الخصب، إلى عازفةٍ، مُغنّية، وممثلة في المسرح المدرسيّ، بتعدّد مواهبها أوصلت أهلها إلى قناعةٍ مفادها بأنّها خُلِقَت لتصبحَ فنانة، وفي الثامنة عشرة من عمرها، أمسكَ القدرُ بيدِ شغفها وإصرارها عبر إحدى شخصيات شكسبير (جيرترود- والدة هاملت) التي أدخلتها إلى المعهد العالي للفنون المسرحيّة في سورية، وكانت من الفتياتِ الثلاث الأوائل اللّاتي تخرّجْنَ كممثلات أكاديميّات من سورية. بقدرةِ روح الهاوي على التّبنّي، وخِفّة المحترف بالتّنقُّل بين الكاركترات، حجزت لنفسها مقعدًا في الصفوف الأماميّة لنجمات سورية عبر أرشيف كبير يجمع بين الأعمال المسرحيّة، الدراميّة، السينمائيّة، الإذاعيّة، والدوبلاج، فطبعَت أعمالَها بطابعِ الوفاء لمهنةٍ طالما أحبّتها.

الفنانة القديرة وفاء موصللي أهلًا وسهلًا بكِ في منصّة ETSyria، سنعودُ معكِ اليوم إلى ذكريات وتفاصيل لا يعرفها الكثيرون عن أروقة المعهد العالي للفنون المسرحيّة بين عامي (1981-1977) وإلى الدُّفعة الأولى التي تخرّجت منه أو كما سُمِّيتم دُفعة العباقرة!

كم بلغ عدد المُتقدِّمين إلى المعهد في عامه الأوّل؟ ومَن كان في لجنة القبول حينها؟

قُرابة 3500 مُتقدِّم، قُبِل منهم أربعة وعشرون طالبًا، وتخرّج في الدُّفعة الأولى أربعة عشَر طالبًا، وثلاث طالبات.

لجنة القبول كانت مؤلَّفة من أساتذة كبار: الدكتور فواز السّاجر (رحمه الله)، الأستاذ أسعد فضّة، الرّاحل أديب اللّجمي وكان معاونًا لوزيرة الثقافة ثمّ أصبح العميد الأوّل للمعهد العالي وكان مُشجِّعًا وداعمًا لنا، والأستاذ سعيد زعيتر مُدرِّب ليونة،إيقاع، رقص، وبروتوكولات كلاسيكيّة. وقد تم توزيعنا على شعبتين وأشرفَ علينا الدكتور فواز السّاجر والأستاذ أسعد فضّة على مدار السّنوات الأربع في مادة التمثيل.

في شعبة مَن كنتِ؟

كنتُ في شعبة الدكتور فواز السّاجر.

الدُّفعة الأولى من الخرّيجين
 الأسماء من اليمين إلى اليسار: أيمن زيدان، جمال قبّش، فايز قزق، واصف الحلبي، أمانة والي، جمال سليمان، الراحل طلال نصر الدين، جورج حداد، رضوان جاموس، وفاء موصللي، إنجي اليوسف، عيسى عيسى، مروان فرحات، الراحل غسان سلمان، محمود المحمد، مأمون الرفاعي، ميشيل نعمة

قلتِ: “أساتذتنا في المعهد كانوا قاسيين علينا كتير، بس ربّونا منيح”.. ما الذي تعلمتموه من هذه القسوة؟

تعلّمنا الكثير بعيدًا عن الأداء التمثيلي، تعلّمنا أخلاقيّات الفن التي تحدّث عنها ستانسلافسكي، بالإضافة إلى الحِسّ الجماعيّ، أن نحبَّ الدّور في أنفسنا لا أنفسنا على حساب الدّور، عدم التّأخُّر على البروڤا لأنه يفسد المزاج الإبداعي للآخرين، عدم الاستعراض وإبراز العضلات في مَشاهِد الزملاء بهدف سرقة الضوء منهم، احترام وتقدير الرّعيل الأوّل من الفنانين. على ذكر القسوة، ونحن طلبة في السّنة الثانية وعلى الرّغم من إصرار أساتذتنا على حضورنا للمهرجانات المسرحيّة التي تقام في دمشق، لكنّهم كانوا يمنعوننا من التعرُّف بشكلٍ شخصيّ على الفِرَق المُشاركة العربيّة منها والأجنبيّة، حيث من المُبكِّر جدًا أن نعطي صورةً عن المسرحيّ السّوريّ أمام هذه الفِرَق.

 ما الذي يحضرُ سريعًا في ذاكرتك عندما أقولُ لكِ:

المعهد العالي للفنون المسرحيّة في دُمَّر؟

أتذكّر شجرةً في باحة المعهد الذي كان في دُمَّر، وتحوّل إلى مخفر أو ناحية في الوقت الحاليّ، وكنّا نحبّ هذه الشجرة كثيرًا، وعند عودتنا من العطلة الصّيفيّة لم نجدها فأصابنا حزنًا كبيرًا عليها، ثم أخبرونا بأنّهم أزالوها لكي يبنوا لنا قاعة ليونة ورقص، لأنّنا كُنّا نذهبُ إلى مديرية المسارح والموسيقا بساحة النّجمة لنأخذَ درس اللّيونة في قاعة الفنون الشعبيّة لفرقة أُميّة. أتذكّرُ أيضًا عودتنا من دُمّر إلى الشّام سيرًا على الأقدام والقهوة عند أبو شفيق كمحطة لمتابعةِ المشوار، وصوت القطار الذي كان يمرّ بالقربِ من المعهد وكنّا نضطرّ إلى إيقاف الدّرس عند مروره، أتذكّر ما قدّمه لنا كادر هذا المعهد على كافة الأصعدة،

سأعطيكَ مثالًا: كان عميد المعهد الأستاذ الرّاحل أديب اللّجمي يدرِّس فيه اللّغة الفرنسيّة أيضًا، فلاحظ بأنّ أحد الطلاب ينام في الحصص الدراسيّة، وبعد متابعته للموضوع، تبيّن أنّ هذا الطالب يعمل طوال الليل كحارس ليليّ لتأمين إيجار غرفته، فتمّ منح مكافأة شهريّة لكلّ الطّلبة كنوع من الإعالة الماديّة لهم خلال فترة تحصيلهم العلميّ، أتذكّر وأقدِّر اهتمام القائمين على المعهد حينها بتنمية مَلكَاتنا، حيث تم استقدام مُدرِّس فرنسيّ الأصل ونحن في السّنة الثالثة، وبقي معنا لمدة سنة كاملة توِّجَت بعرض مسرحيّ لموليير، ثم سافرنا بعدها إلى فرنسا للمشاركة في عدّة كورسات بانتومايم (التمثيل الإيمائيّ) في مهرجان أفينيون للمسرح في فرنسا، بالإضافة إلى حضورنا لمسرحيّات عالميّة هنالك.

الدكتور فواز السّاجر ورقم 60؟

كان الدكتور فواز يُلزمنا بقراءة ستين صفحة يوميًّا من أيّ كتاب لا على التعيين، وفي اليوم التّالي يجب أن نُحضِرَ معنا الكتاب إلى المعهد، ويسألنا فيما قرأنا، وفي حال لم نعرف الجواب كان يُنزِل بنا العقوبات، فعوّدنا على المطالعة والقراءة، وكان له فضل كبير في صقل شخصياتنا كفضله بتطوير أدواتنا التمثيليّة.

مسرح القبّاني والبيانو!

أعترف بأنّني كنتُ طالبةً مشاكسة، ففي أحد الأيام وقبل بدء الدرس في مسرح القباني، جلستُ على بيانو موجود في المسرح وبدأتُ بالعزف عليه، وعندما دخل الأستاذ فواز السّاجر قام بطردي من الدرس لأنّه بروتوكوليًّا لا يجوز أن تعزفَ على آلةٍ ليست لك، أو دون إذْن من صاحبها. فخرجتُ باكيةً من المسرح وذهبتُ إلى سينما السّفراء، لا أتذكّر شيئًا عن أحداث الفيلم لأنني أكملتُ بكائي في الصّالة.

جملة: “مين بيعرفك ليدافع عن وجودك، عليكِ بالانتشار ثم الاختيار”.

هذا ما قاله لي الفنان عدنان بركات _رحمه الله_ وكانت هذه الجملة إحدى الأسباب في تراجعي عن الانسحاب من مسلسل “أبو كامل”. ففي أي مجال هناك صعوبات تواجه الخرّيج عند دخوله إلى الواقع العمليّ، وقد ساعدنا على تجاوزها عدد كبير من الرّعيل الأول، ولكن الفنان الرّاحل عدنان بركات والسيّدة القديرة منى واصف كانا الأكثر تفاعلًا معنا وتفهّمًا لجيلنا، وقد مدّوا بيننا جسورًا للتواصل، وتعلّمت منهما الكثير.

العرض المسرحيّ (السّيّد بونتيلا وتابعه ماتي) عام 1981، إخراج الأستاذ أسعد فضّة
بونتيلا: فايز قزق، ماتي: رضوان جاموس، راعية الأبقار: وفاء موصللي.

قوت القلوب حلَّقَتْ بوفاء موصللي من سورية إلى روسيا

“قوت القلوب” كانت شخصيتي الرئيسيّة في مشروع التخرّج (سهرة مع أبي خليل القباني)، للكاتب الرّاحل سعدالله ونوس، وإخراج الأستاذ فواز السّاجر (رحمه الله)، وكان الأستاذ سعدالله ونوس يزورنا في البروڤات، وحاضرًا في العرض النهائيّ على خشبة مسرح الحمراء في دمشق، كنتُ أشعرُ أمامه برهبةٍ كبيرة وخوف، مع أنّه لم  يتدخّل في أداء الممثل أبدًا، وقوت القلوب كانت السّبب باختياري من قبل معاون وزير التعليم الرّوسيّ وإعطائي منحة روسيّة  لمتابعة دراستي الأكاديميّة هنالك، وكنتُ متردّدة جدًا لكن زملائي في الدُّفعة كان لهم دور في تشجيعي لاغتنام هذه الفرصة. بعدها سافرتُ إلى روسيا ودرستُ اختصاصَين (تدريب الممثل، والإخراج) تحت إشراف أهمّ الأساتذة الرّوسيّين.

المُغنّية وفاء موصللي ومعهد صلحي الوادي كَرَّمَا سورية في الجزائر موسيقيًّا.

بعد التخرّج مباشرةً، ومع المعهد المُسمّى حاليًّا باسم الأستاذ الرّاحل صلحي الوادي، لأنّه من قام بتأسيسه، سافرتُ إلى مهرجان المالوف في الجزائر كعازفة، ومُغنّية موشّحات أندلسيّة، وحصدنا لسورية المركز الأوّل في المهرجان.

وفاء موصللي تخرّجت من المعهد العالي بعرضين مسرحيين في فصل واحد!

نعم، حيث كان العرض الأول من إخراج الأستاذ أسعد فضّة عن نص “السّيّد بونتيلا وتابعه ماتي” ل: برتولد بريخت، والثاني إخراج الدكتور فوّاز السّاجر عن نص “سهرة مع أبي خليل القبّاني” الذي تحدّثنا عنه.

وفاء موصللي سفيرة للنوايا الحسنة وهي في الخامسة عشرة من عمرها!

وأنتَ الصّادق سفيرة للفضول، كنتُ أحصل على لوحات لرسّامين فلسطينيين وأبيعها إلى السّفارات في سورية، للاستفادة من ريعها في دعم المُنظَّمات الفلسطينيّة، فدوري كان مقتصرًا على إقناع المسؤول الإعلاميّ في كلّ سفارة بشراء اللّوحة، فيعطينا إيصالًا بثمنها، وأقوم بتسليمه إلى هذه المُنظّمات.

نعم، ولكِ أيادٍ بيضاء خفيّة خصوصًا خلال الأزمة السّوريّة.

لا أحبّ الحديث عن هذا الموضوع، فقط أقول لكَ: العمل التّطوّعي في حياتي يوازي بأهميّته العمل الفنّي.

بروشور مشروع التخرّج (سهرة مع أبي خليل القباني) عام 1981

مدام وفاء لنعود إلى الحاضر

عمل لم تشاركي به، وتابَعْتِه بشغفٍ ومتعة؟

بالعموم أنا ميّالة إلى أسلوب الدكتور ممدوح حمادة في الطرح حيث خير الكلام ما قلّ ودلّ، فهو مثل تشيخوف ساخر بذكاء، والمخرج اللّيث حجّو مِن أكثر المخرجين قدرةً على قراءة كلمات الدكتور ممدوح، والإضافة البصريّة عليها فتخرج لنا أعمالهم ككرة الثلج الإبداعيّة، “ضيعة ضايعة” مثالًا، وكلّ الحبّ والاحترام لجهد الزملاء المشاركين في هذا العمل المُمتع.

المخرجة وفاء موصللي تبحث عن ممثلة شابة لأداء دور يحتاج للكثير من العفوية.. فمن ستختار؟

سورية ولّادة المواهب الإبداعيّة، وهناك عدد كبير من الممثلات الشّابات اللّواتي يمثلْنَ بشغف…

أريد منك الإشارة إلى اسمين من الجيل الجديد

أحبّ عفويّة وصدق إحساس دانة مارديني، وجفرا يونس على سبيل الذكر لا الحصر… 

كيف تصفين علاقتك مع السوشيل ميديا؟

لم أكن أحبّها أبدًا، ولكن للأسف أصبحت الآن CV للفنان، وإن كان CV وهمي أو افتراضي، لكن لابدّ منه.

وماذا عن التعليقات السلبيّة من قِبَل المتابعين؟

التعليقات السلبيّة حدِّث بلا حرج، تخيّل إذا قمتُ بتجسيد شخصيّة لئيمة، يشتمونني ويدعون علَيَّ كوفاء موصللي، لا على الشّخصيّة بحدّ ذاتها.

فريال في باب الحارة مثلًا؟

شخصيّة فريال أتعبتني جدًّا خلال التحضير فهي بعيدة عني كليًّا، لكن الجمهور يحبّ فريال أكثر من وفاء!

 وكيف تتعاملين مع هذه المواقف؟

عمومًا أتعاطى بطريقة وديّة ولكن لا أقبل الإهانة أو التجريح.

بعد أربعين عامًا من العمل الفنّي، كيف أعادتكِ ابنتك نايا إلى مقاعد الدراسة في تكنيك السوشيل ميديا؟

ضاحكةً: أنا أعرف هناك تكنيك لممثل المسرح، آخر لممثل التلفزيون، تكنيك للسينما، الإذاعة، والدوبلاج، أما عن تكنيك ممثل السوشيل ميديا والفوتوسيشن فهذا لم أسمع به في حياتي، وحاليًا نايا ابنتي هي أستاذتي لتعلّمني هذه التِقنيّات.

مبارك حصولك على الإقامة الذهبيّة في الإمارات العربية المتحدّة، ما الذي تضيفه هذه الإقامة على الصعيد المهنيّ للفنان السّوري؟

سأخبرك بشيء قد لايعرفه الكثيرون، كانت الإمارات فيما مضى وحتى قبل أن أدخل إلى الوسط الفنّيّ، تستقطب الفن والفنانين من كافة الدول العربيّة، وكانت كلّ من عجمان ودبي مقصَدًا لصناعة الدراما العربيّة السّوريّة، اللّبنانيّة، المصريّة وغيرها، حيث أخرج الفنان الرّاحل علاء الدين كوكش والكثير من المخرجين السّوريين العديد من أعمالهم المحليّة في هاتين الإمارتين، ثم توجّهوا بعد ذلك إلى اليونان. هذه الإقامة قد تعطي للممثل السوريّ فرصًا وتفتح له آفاقًا جديدة على الصعيد المهنيّ، ولكنّ الأهمّ من ذلك فقد أصبح من الضروري جدًا التقاء الفنانين السوريين والعرب في شتّى أنواع الفنون والتّنافس الفنّي فيما بينهم بشكل مهنيّ.

هل من عمل فنّي جديد يتم التحضير له أو الشروع به؟

انتهينا من تصوير الجزء الثاني من مسلسل حارة القبّة، أمّا حاليًّا فلا جديد يُذكَر. ولكن من الممكن حارة القبّة، وسوق الحرير بموسمهما الثالث، إلّا إذا حدث تغييرات في حبكة النّصوص تستدعي عدم وجود شخصيتي

بعفويتها المعهودة، وحضور ابتسامتها اللّطيفة شاركتنا القديرة وفاء موصللي ذكرياتها، فجعلتنا نَحِنُّ إلى ماضٍ لم نعاصرْ أحداثه، ويا ليتنا لو كنّا …