شارع شيكاغو.. السينما “فوق” بيتك!

بقلم: جوان ملا

ملاحظة: هذه القراءة تحتوي على حرق أحداث لمسلسل “شارع شيكاغو”

تاه الجمهور في نهاية مسلسل شارع شيكاغو، لم يعرفوا الحقيقة التي خبأتها ميرامار العمياء زمناً طويلاً، ولم يدرِ الكثيرون ماذا جرى!، وأخذت الأخماس والأسداس تضرب بعضها في عقول الجميع، والحقيقة أن الجمهور على حق، فهو غير قادر على فهم دماغ المخرج المشبَع بالسينما ورموزها، فالكثيرون يشاهدون المسلسلات كي يستمتعوا فقط لا ليُحلّلوها!.

اسم “محمد عبد العزيز” كمخرج سينمائي لم يمر مرور الكرام، حيث حصدت أفلامه الجوائز في عدة مهرجانات دولية وعربية، والكثير من هذه الأفلام لم تصل للجمهور المحلي السوري لصعوبة وصول الفيلم السوري إجمالاً لمنصات العرض، ما جعل محمد يدخل بأفكار أفلامه الغارقة بالرمزية مضمار الدراما السورية تحت شعاره الخاص “السينما في بيتك” في أول عمل له وهو “ترجمان الأشواق” الذي حقق أصداءً إيجابية بعد عرضه، ودخلَ بعدها في تنفيذ عمل مشترك معقّد في رمزياته وغموضه وهو “صانع الأحلام” الذي يحتاج لتركيز كبير أثناء مشاهدته، إلا أن هذين العملين كانا من تأليف بشار عباس في حين يأتي شارع شيكاغو من تأليف محمد نفسه مع ورشة كتّاب شباب “علي ياغي، رزان السيد، يزن الداهوك” ليجعلنا تائهين حتى عندما نشاهد الحلقة الأخيرة!

فوضى ما قبل العرض:

شدّت بوسترات المسلسل الأنظار لجمالية تنفيذها، فقلّما نشاهد مسلسل سوري يُصَدّر صورةً جميلةً عن العمل في بوستراته بهذا الشكل، ليس كذلك فقط، بل إن كوكبة النجوم المشارِكة في المسلسل جعلت الجميع يتحمّس لِما سيقدّمونه، فمنذ زمن لم تجمع شركة أو مخرج سوري عدداً كبيراً من هذه الأسماء، من الكبير دريد لحام،  إلى سلاف فواخرجي، أمل عرفة، عباس النوري، مهيار خضور، شكران مرتجى، وائل رمضان، جوان خضر، نادين خوري، نادين سلامة، هدى شعراوي بالإضافة للوجوه الشابة الجديدة.

العمل حقق جدلاً وانقساماً قبل عرضه بسبب البوستر الذي كان يوحي بقُبلة حميمية بين مهيار خضور وسلاف فواخرجي، فقامت الدنيا ولم تقعد بين معارضين لهذه المشاهد التي اعتبروها خادشة للحياء، ومؤيدين لها معتبرين أنه يجب كسر التابوهات ونظرات المجتمع التقليدية، وبين كثرة الآراء والشتائم التي أطلقها البعض وكانت أفظع من الإيحاء بالقبلة، والتعنت الذي أبداه مؤيدو هذه المَشاهد، شكّلَ العمل “ترند” وسوقاً كبيراً له عند الجمهور بكافة شرائحه حتى المعارضين له أنفسهم! فماذا قدّم عبد العزيز في مسلسله الثالث؟

الشارع في عيون جمهور الشارع:

“جمهور الشارع” تعبير لا يُقصَد به الإهانة، بل المقصود هو الجمهور البسيط الشعبي الذي يشاهد المسلسلات على التلفاز والإنترنت بغاية التسلية والمتعة لا أكثر ولا أقل وهم الفئة الغالبة، وهذا الجمهور شاهدَ “شارع شيكاغو” على مدار إحدى وثلاثين حلقة، وأخذ يتابع ميرامار العمياء، التي لعبت دورها النجمة سلاف فواخرجي وهي تهرب نحو حب جديد يجمعها بمراد عكاش – مهيار خضور إلى أفق آخر بعيداً عن تسلط عائلتها.

وميرامار تحب الغناء وأن تطلق صوتها عالياً في الفضاء وهذا ما لم يُرضِ والدها – رضوان عقيلي الذي أراد منها أن تستثمر صوتها في الأناشيد الدينية، لكن حبها لمراد الصحفي الشيوعي قوي البنية والهائم بها جعلها ترمي عائلتها وراءها لتجد في شارع شيكاغو متنفسها وتغنّي فيه بصوتها العذب رغم هروبها وبحْث أخيها برهان – جوان خضر عنها وعن مراد ليقبض عليهما، فهو لا يقبل أن تتزوج أخته بهكذا رجل لا يتناسب مع منصبه واتجاهاته السياسية، وهذا الشارع الدمشقي الذي لم يتجاوز طوله المئتي متراً كان قابعاً وسط دمشق كمرتع للسهر والشرب والغناء والرقص، ما جعله محط أنظار البيئة المنفتحة ومنبوذاً من البيئة المتدينة.

تتتابع وتيرة الأحداث وتتصاعد بين هروب ميرامار ومراد من شارع شيكاغو إلى سينما الدنيا، فكنيسة، لينتهي بهما الأمر في الصحراء، المكان الذي بدأت به قصة المسلسل حين ذهب “نعمان كحل الليل” عام 2009 إلى الشرطة ليخبرهم عن وجود قبر ميرامار الذي دفنها فيه بيديه مع شقيقها برهان يوم الانفصال 28 أيلول 1961 لتنفتح القصة على لغز دُفِنَ منذ أكثر من أربعين عاماً، ليتابع المحقق يوسف – وائل رمضان القضية بإصرار متحدياً رئيسه في العمل الذي يحاول أن يخفي الحقيقة المندثرة منذ زمن بحكم أن وراءها شخصاً متنفذاً هو سميح الحوت – جمال قبش الذي يسعى بدوره لإبقاء ملف القضية مغلقاً، وحين يعلم بإعادة فتحه يتقرب من سماهر – أمل عرفة وهي فتاة ليل ومغنية هاربة ومنبوذة من أسرتها ليسعى أن يجعل منها “ميرامار جديدة” وجاسوسة تابعة له تنفذ ما يريد، وبالانتقال عبر زمنين 1959 و 2009 يشهد الجمهور أحداثاً متشابكة بين شارع شيكاغو في الستينات حيث تعلو أصوات الرقص والضحكات والخَمّارات من ملهى ستيلا – شكران مرتجى و أم رياض – هدى شعراوي والبحث عن جِرار الذهب من قِبَل المتطرفين الإسلاميين تحت شارع شيكاغو بعد أن وجدوا خريطة كنز تدل على وجود ذهب تحت الشارع، وبين عام 2009 الذي ينشغل فيه مراد عكاش – عباس النوري بعدما كَبُر عمراً بمعرفة مكان قبر ميرامار بعد أن أصرّ يوسف أن ينبش ماضي موتها نتيجة مقتل “نعمان كحل الليل”  فورَ أن أخبرَ الشرطة عن مكان قبر ميرامار.

الحكاية تقدم نفسها بطريقة رآها الجمهور مفككة في كثير من الأحيان ووضعت فجوات كثيرة بعقله، وهذا حقه، فهناك الكثير من المماطلة بالأحداث، والأخطاء في النص كما أن الحكاية التي لم تكن مشبعة، ما أوقعت المخرج بفخ الهفوات، ولكن بقي الجمهور ينتظر النهاية رغم هذا فانصدم أكثر، حيث استطاع مراد في الحلقة الأخيرة النيل من سميح الحوت الذي لم يكن سوى برهان نفسه ورماه في الصحراء في المكان الذي كان فيه قبر ميرامار والذي لم تكن جثتها فيه حسبما تبين في الحلقة الأولى من العمل.

وهذا ما جعل مراد أصلاً يجن جنونه ليبحث عن ميرامار علّه يجدها حية، فحبّه لها لم ينقص يوماً واحداً، وحقاً ما توقعه حدث لكن بطريقة أخرى، فميرامار حيّة بابنتها التي أنجبتها من مراد بعد علاقة جنسية في الصحراء أثناء هروبهما أثمرت عن طفلة أبعدَها خالها “برهان” عن الأعين ووضعها في دير مار موسى في ريف دمشق وقتل أمها ميرامار ذبحاً بعد أن سجنها بالاتفاق مع “نعمان كحل الليل” وبعدما اعترف برهان لمراد تحت تهديد السلاح بما فعله بابنته ذهب وهو مدمّى بسبب رصاصة أصابه بها برهان نحو الدير لينادي ابنته التي سماها خالها “نادية”، تطل نادية من بعيد ليلوّح لها دون أن يمسها وتنتهي حكاية المسلسل بعد أن أحرقَ الإسلاميون شارع شيكاغو وقتلوا أهله.

ليبدأ الجمهور بوضع ألف علامة استفهام على هذه النهاية التي لم يستوعبها كثيراً والأسئلة التي لم يجد لها جواباً، والنهايات المفتوحة والمعلقة للعديد من الشخصيات، فهو لم يعرف مثلاً كيف وصل يوسف وميس إلى نفق الذهب الذي يقبع تحت شارع شيكاغو، ولم يفهم لماذا ضاع يوسف فجأة في متاهة النفق ولم يفقه لماذا نادت ميس – نادين سلامة ميرامار التي ظهرت لها كشبح بـ “أمي” مع أنها ليست أمها ولا تقربها، وليس هناك تبرير لإخفاء الرسالة التي كتبتها ميرامار منذ 40 عاماً في سجنها المنفرد الذي حبسها فيه أخوها، كما بقيت فكرة تسمية سماهر بميرامار ومحاولة شراء برهان لشارع شيكاغو مبهمة، ومقتل سماهر كان متوقعاً وغير مفاجئ ولم تكن نهاية سعيدة للأشخاص الذين تعلقوا بهذه الشخصية؟

عدا عن ذلك لم تكن هناك فائدة ملموسة من مشاهد القبلات الساخنة والتي يرى كثيرون أنها لم تُوَظّف بالشكل الصحيح، وثنائية ميرامار ومراد لم تعجب الجميع حالها كحال باقي ثنائيات الحب “يوسف وميس، جواد وسمر، سارة وتيم” والتي كانت متفاوتة في طرحها وأداء ممثليها، هكذا نظر الكثيرون للعمل واعتبروه أثارَ ضجة واسعة بدون محتوى مفهوم أو مميز بل قصة عادية كغيرها مرت وأحدثت جدلاً وانتهت بإبهام وإيهام، وأثارت غضباً على وسائل التواصل حيث شعر المتابعون أنهم أضاعوا من وقتهم 31 ساعة تلفزيونية.

شيكاغو في عيون جمهور شيكاغو:

من يتابع أفلام محمد عبد العزيز يعرف أنه لا يقدم فكرة مجانية عبثية بل يسعى إلى ترميز كل شخصية وحركة ولقطة فيخرج المشاهد العادي من السينما لا يفقه ماذا حدث، تماماً كما حصل في شارع شيكاغو، ففي الحلقة الأخيرة يعيدنا محمد عبد العزيز إلى الترميز الذي سنحاول تحليله في هذا المقال حسب رؤيته وأفكاره السينمائية والتي هي صعبة حقيقةً وتحتاج إلى فك تشفير مطول!.

ميرامار العمياء هي رمز للوطن “سوريا” التي لا تستطيع أن ترى أحداً وتتوه في ظلامها، لكنها تعرف الجميع وتحب الجميع وتنصِت للجميع وتغنّي للحب والجمال والتحرر، لكن هذه الصبية الجميلة كُتِب أن يكون توءمها اللصيق هو شقيقها “برهان” وهو يرمز إلى الفساد المتنفّذ، في دلالة على وجود شخصيات تؤذي البلاد دوماً طمعاً بها، فحين ذهب برهان بعد الانفصال إلى بيروت عاد باسمٍ جديد هو سميح الحوت في رمزية على أن هذه الشخصيات التي تعيث فساداً موجودة في كل زمان ومكان لكن بوجوه وأسماء جديدة وقد وضّحت ميرامار في أحد المشاهد أن الحبل السري لبرهان خنقها في رحم أمها حتى وُلدت ضريرة هكذا!.

وهذا الأخ الذي يسعى لتحقيق مصالحه يحب أن يعلو فوق جراح شقيقته على حساب راحتها ويحاول أن يأسر حريتها ويقتل كل لمسة حب قد تحيي فيها أملاً وحياةً واللذين جاءاها عن طريق مراد والذي كان صحفياً في ترميز واضح لـ “الحقيقة” بحكم أن الصحفي يبحث عنها دائماً في مقالاته، فتبعَته تاركةً كل الأفكار الدينية التي يقنعها بها أبوها وتسلُّط أخيها الذي يمارسه عليها.

يحاول سميح الحوت في 2009 أن يخلق ميرامار جديدة ليوهم الناس بشكل وطن جديد لا يشبه إلا مصالحه وأطماعه، فسماهر فتاة ليل وتقدّم فناً هابطاً لا يقارَن بالفن الذي قدمته ميرامار الأصلية، فيلجأ لتحويلها إلى لعبة بين يديه تفعل ما يريد، ويصدّرها للجمهور على أنها “الصورة الصحيحة” كما يعوّدها على المخدرات لتكون شخصية مزيفة عن صورة الوطن الحقيقي، وحين لم تقبل أن تكون لعبةً بين يديه وتقتل أخاها أرداها قتيلة ودفنها في نفس مكان دفن كهرمان – رفيف إدريس وهي الراقصة التي اكتشف أيام الستينات أنها جاسوسة، لذا فإن التاريخ كرر نفسه!، وهو ليس بحاجة لوطنٍ لا يمشي على هواه فقتل سماهر!.

في حين يبحث يوسف عن حقيقة مقتل ميرامار وكذلك فعل المحقق شامل في زمنين مختلفين، وهما اللذان يمثلان الشرف والنزاهة في زمن المحسوبيات، فشامل تعاطف مع مراد وهو من أخرجه من سجنه الذي وضعه فيه برهان حسبما أوحيَ لنا في الحلقة الأخيرة، بينما كان يوسف مريضاً منذ بداية العمل وهو على وشك الموت في دلالة على قرب انتهاء الرجال الشرفاء الذين يحاربون المفسدين، ليختفي في النهاية تحت النفق الذي يحوي الذهب، ويضيع معه الصدق الذي لم يعد موجوداً، إنما لم نعلم إن مات حقاً أم بقي حياً!، كما ضاعت عنه حبيبته ميس التي دُفِنَت معه في متاهة نفق الذهب وهي تمثل الحياة الجديدة الموصومة بندوب الماضي التي زرعها فيها عمها المجرم نعمان كحل الليل قاتل ميرامار في حين تهيأت لها ميرامار بصورة أمها المحرومة منها! فهي وطن من لا وطن له، وميس لم تكن مثل صفات عمها فليس كل مجرم يزرعُ حقداً، إنما قد يخلّف قلباً طاهراً.

أما الرسالة المخبأة منذ أربعين عاماً هي الحقيقة التي خبأتها نور الهدى طويلاً وهي شخصية تدل على الناس الهادئين المهادِنين الخنوعين الذين يحاولون كسب جميع الأطراف بصمت وفي اختيار اسمها “نور الهدى” دلالة أيضاً على ذلك!.

جورجيت وحسني هما شخصيتان تمثلان المجتمع المدني السوري “اليهودي والمسيحي” والذي لم يعد يجد له مكاناً في ظل التطرف الإسلامي الذي يحارب الانفتاح، حيث يهربان نحو الأرجنتين ليتزوجا، لكن قبر جورجيت مازال في سوريا حيث دُفن جثمانها فيها في دلالة على أن الأديان متأصلة في هذه الأرض وباقية في ترابها حتى لو اندثرت كما اندثر يهود سوريا!.

عائلة سماهر المتفككة تمثّل فئة كبيرة في المجتمع السوري الذي يغنّي أفراده كلٌّ على ليلاه، فالوالد أبو يوسف – تيسير إدريس يمثل العادات والتقاليد الرجعية وهو لا يعرف أن يدير أمور عائلته بسبب تعنّته، ومن المقصود طبعاً أن تكون مهنته شرطي مرور في كناية عن عدم قدرته على تنظيم سير بلاده أيضاً، زوجته إيمان عبد العزيز تمثل النساء الخاضعات في المجتمع للعقلية الرجعية والمجتمع الذكوري، فهي ساكتة وراضية بالعادات والشرع رغم أنه تزوج عليها امرأة أخرى – أمية ملص وقد اختارها سيدة لا تسمع جيداً وشبه بلهاء لأن ما يريده هذا المجتمع هو أن تُنَفَّذ أحكامه دون اعتراض أو محاكمة للعقل، وتنتهي رحلة هذه العائلة بالانتقال لبيت جديد والتي تدل على “النزوح”، إنما الانتقال لمكان جديد لا يعني أبداً تغيُّر العقلية الرجعية فالأفكار هي ذاتها وإن تغير المكان!.

أما سمر – سماح سرية وجواد – همام رضا فقد ارتبط هروبهما وزواجهما في الزمن الحديث بميرامار ومراد قديماً لكنهما اتجها غرباً هاربين نحو بيروت عكس مراد وميرامار المتجهين شرقاً نحو بغداد، فآلية تفكير الجيل الجديد اختلفت، والحب الذي لم يجد له مكاناً سيُزهر في أرض غربية أجنبية أخرى، في حين ترمُز قصة حب سارة – ريام كفارنة وتيم – خالد شباط للجيل الجديد المتمرد الخارج عن أي منظومة مجتمعية فهما حسني وجورجيت بشكلهما الجديد، والباحثين عن حرية ممارسة طقوس الحب بعيداً عن البلاد التي بقي الحب فيها محرماً!.

أما شمس – علا سعيد فهي الحقيقة الكاذبة، التي تخدع الجميع وتغويهم وتختلق لهم قصصاً مختلفة عن حياتها، هي صادقة في قلبها لكنها كاذبة في كلامها، ويتضح من اختيار اسم الشخصية أنها الحقيقة التي تكذب والكذبة الحقيقية في ذات الوقت والتي كذبت على جميع من تقربوا منها لكنها لم تستطع فعل ذلك أمام ميرامار!، في حين كان كرمو – مصطفى المصطفى رمزاً للابن الضال الذي يعيش في كنف سماهر التي تمثل كما ذكرنا “الوطن الوهمي”، فكان ابناً وهمياً مثلها هي، فسماهر “ميرامار المزيفة” امرأة لا تنجب بسبب استئصال رحمها، عكس ميرامار الأصلية التي أنجبت طفلة!.

الذهب يرمز لخيرات البلاد الضائعة التي لم يجدها أحد ولم يستمتع بها أحد ومات الجميع في سبيلها، وحين يبحث الكل عنها تخرُج له ميرامار من كل ناحية لتثبت أنها وحدها الباقية في وجه كل طامع، أما شارع شيكاغو فهو يعبّر عن سوريا العلمانية التي دمّرها التطرف الديني وحرَقَها في النهاية وقتل روّادها، أي أن الشارع لا يمثل الشارع ذاته الذي كان قائماً في تلك الفترة بل هو يرمز لمعنى مختلف تماماً، ومهمة وجوده لم تكن توثيقية في العمل أصلاً والعاملون فيه هم يرمزون لعيّنة من الشارع السوري ومكوناته المختلفة والمميزة عن أفكار باقي أفراد المجتمع السائدة والتي تم تهميشها ونبذها وربما قتلها.

تنقَّلَ مراد وميرامار من مكان لمكان تبيَّنَ فيه رموز مهمة، حيث تخفّيا في شارع شيكاغو “الذي يرمز للعلمانية والتحرر”، وحين كُشِفَ أمرهما انتقلا إلى “سينما الدنيا” في ترميز للفن الذي كان مزدهراً في تلك المرحلة، ثم اختبآ في كنيسة في دلالة على الديانة التي كانت سائدة في سوريا قبل الإسلام وبعدها انتقلا للصحراء، وهو المكان الخالي المكشوف، حيث أقاما علاقتهما الجنسية الوحيدة في هذه الصحراء في كناية عن إعادة الخَلق من جديد “آدم وحواء” حيث أسفرت هذه العلاقة عن ابنتهما فيما بعد والتي كانت “أملاً” نابعاً من صحراء قاحلة وتكويناً جديداً لوطن جديد رسماه في مخيلتيهما.

وقد اختار المخرج وهو كاتب العمل نفسه، أن تهرب ميرامار ومراد عبر طريق بغداد حصراً لا تركيا ولا الأردن ولا لبنان في غاية منه للترميز إلى الدولة الإسلامية في العراق والشام والتي تدل على التطرف الديني “داعش” الذي عاث في سوريا والعراق خراباً وأبقيا البلدين مجرد صحراء قاحلة موحشة لا سكن فيها ولا عَمار، ليقبض شامل على مراد في الصحراء ويقبض برهان ونعمان وشركائهم على ميرامار ويودعونها في سجن منفرد، ليكتشف فيما بعد أنها حبلى من مراد، فينتظرها حتى تلد في سجنها ثم يذبحها بسكين يوم الانفصال تحديداً في دلالة على تفكك وتشرذم الأوطان وانفصالها ودخولها في دوامات من الصراعات السياسية.

في الحلقة الأخيرة يقع برهان في قبضة مراد عكاش بعد صراع بسيط أصيب الأخير على إثره بيده برصاصة، لكن يقوم مراد وينتفض ويضرب برهان بالسلاح ويهدد رجاله ثم يأخذه من قصره نحو قبر ميرامار المرمي في الصحراء والخالي من جثتها، فيدفنه في نفس القبر ويعرّيه من ثيابه مهدداً إياه بالسلاح كي يخبره عن مكان جثة ميرامار مقابل أن يعطيه الأمان ولا يقتله، فيعترف برهان بالحقيقة ويدلّه على مكان ابنة ميرامار التي أسماها “نادية” وأودعها في دير مار موسى، ثم يترك مراد برهان عارياً في الصحراء وحيداً في كناية عن أن لكل فاسد نهاية تعرّيه وتجرّده من أسلحته ليبقى وحيداً لا منقذ له، ووحدهم من سيعرّي الفاسدين هم محبو البلاد أمثال “مراد”.

يصل مراد إلى دير مار موسى حيث ابنته “نادية” والاسم هو يوناني قديم يعني “الأمل”،  ليلوّح لها من بعيد دون أن يمسها أو يراها ولم نشاهد نادية عن قرب ولم نسمع صوتها، فهي  شاهدته من بعيد ولم تنبس بكلمة، فيما بقي هو ينادي ويلوّح ويده مدمّاة، وكأنه غير قادر على الوصول رغم كل حبه لها وشغفه لرؤية وطنه الذي خلّفته له ميرامار، لكنه بقي حلماً، وقد اختار محمد عبد العزيز هذا الدير الأثري بسبب بعده وعلوّه وصعوبة الوصول إليه، وكأن الوطن أصبح بعيداً عنا، وأيضاً لأنه دير سرياني قديم يمثل سكان سوريا الأصليين “السريان”.

هذه التأويلات هي مجرد تحليل للعمل وهي ليست جازمة، فيمكن وضع تفسيرات كثيرة أخرى للقصة والشخصيات ورموزها، ولا يتسع المقال أيضاً لشرح كل الرمزيات بحذافيرها، لكن ما يمكن رؤيته بشكل مبدئي هي هاتِه التفاصيل التي لم يستطع المُشاهد فكّها لصعوبتها، وحتى في هذا المقال لم يتم تفكيكها بشكل كامل ومازال هناك تفاصيل غامضة لا يجيب عليها إلا دماغ محمد عبد العزيز فقط.

الحلقة المفقودة بين الجمهور والمسلسل:

  • رغم الترميز العالي جداً للعمل إلا أن هذا التفصيل كله لا يمكن تقديمه في الدراما التلفزيونية، فالمُشاهد لا يستطيع كشف هذه الألغاز، وهو يتابع بغاية المتعة فقط، فالعمل النخبوي يصلح للسينما أكثر من التلفزيون، وبالتالي كان على شارع شيكاغو أن يُصنَع كفيلم، لأن المُشاهد بقي في حيرة من أمره، فالنهاية ليست مشبعة ولا تشفي غليل واحد وثلاثين يوماً من المتابعة، والمماطلة بالأحداث كانت سيدة الموقف، ومازالت عدة تفاصيل معلقة في العمل ومبهمة، فحتى الترميز يحتاج إلى منطقية في الأحداث.
  • ثنائيات الحب لم تكن موفقة، ففرق العُمر بين مراد وميرامار كان واضحاً رغم شباب سلاف فواخرجي وجمالها، كما كنا نشاهد ميرامار بفساتين مختلفة رغم أنها هاربة من بيتها، فلا نعرف من أين جاءت بهذه الفساتين فجأة، عدا عن أخطاء في بعض الراكورات والكومبارس الذين تكررت وجوههم، وشخصية كروان – سليمان رزق لُوِّنَ شعره بألوان علم المثلية الجنسية “القوس قزح – الرينبو” للدلالة على الميول الجنسية له، إلا أن علم الرينبو لم يكن موجوداً في تلك الفترة ولم يكن رمزاً للمثلية!.
  • وللأسف كان هناك اهتزاز خاطئ في الكاميرا بالحلقة السادسة في مشهد يجمع مراد بميرامار داخل غرفتها حين جاءها متخفياً بالملاءة.
  • ثنائية همام رضا وسماح سرية كانت ضعيفة في أدائها، وكان من الظلم ربطها بثنائية مهيار وسلاف فالأداء متفاوت جداً ولم يقدم همام وسماح نفسيهما بشكل جيد، في حين كانت ثنائية ريام كفارنة وخالد شباط جيدة إلا أنها لم تكن مشبعة، ففجأة شاهدناهما مغرمَين، دون شغف لانتظار حالة الحب بينهما، كما استعجلا القيام بعلاقة جنسية دون مبرر واضح، نفس الأمر حصل مع ثنائية وائل رمضان ونادين سلامة، فالحب كان سريعاً في جميع هذه الثنائيات حتى بين ميرامار ومراد بغض النظر عن رمزيتها، فبعد مشهدين أو ثلاثة من تعارفهما نجدهما غارقَين في الحب ومتعلقَين ببعضهما دون مقدمات مطولة أو ممتعة.
  • القبض على ميرامار ومراد هو سهل جداً إجمالاً ولا يحتاج إلى كل هذه المناورات من “المكتب الثاني” فيمكن لبرهان ورجاله أن يبقوا في شارع شيكاغو كي يقبضوا عليهما، أو أن يلاحقوا جورجيت لتدلهم على مكانهما ببساطة.
  • كما اختفت عدة شخصيات بشكل مفاجئ دون تمهيد كشخصيات جورجيت، ستيلا، أم رياض وابنها، حيث لم يظهروا في مشهد حرق المتطرفين الإسلاميين للشارع ولا نعرف ماذا فعلوا وقتها.
  • الانتقال بين زمنين لم يكن متوازناً وشكّل عدة هفوات، فبعض الحلقات تكون المَشاهد فيها مطوّلة عن الزمن الحديث وحلقات أخرى تكون أحداث الستينات هي المتصدّرة، كما استُخدِمَت أيضاً أدوات لم تكن موجودة في الستينات، كالكاميرا التي صُوِّرَ فيها حفل ميرامار في ملهى ستيلا، وملصقات لبوسترات أفلام لم تكن معروضة في ذلك الوقت أساساً، وفي المشهد الأول لدخول مصطفى المصطفى مع أمل عرفة يَذكر أغنية إليسا “تعبت منك” علماً أن هذه الأغنية صدرت عام 2012 أي بعد أحداث العمل بثلاث سنوات!.
  • شارة العمل توحي للمشاهد أنه أمام مسلسل توثيقي بحت لكن ذلك لم يكن موجوداً، فالمسلسل رمزي ولا يخلو من الفانتازيا، ورغم رمزيته تلك كانت الحوارات المباشرة كثيرة في النص، ما يجعل السيناريو بحاجة لمشرف درامي ليتفادى ذلك، فمن الحلقة الأولى مثلاً عرفنا قصة عائلة سماهر، وأنها تزوجت وهي قاصر ومجبَرة، فهربت من منزلها بعد أن تطلقت وتعنّفت، وعرفنا قصة أخيها يوسف، بحوار مباشر جداً بينه وبين وأبيه، ما أفقد المتعة لفك لغز الشخصيات تدريجياً، وغالبية الشخصيات كانت تحكي قصصها بطريقة مباشرة دون مواربة.
  • وكان “بعض” الممثلين بحاجة إلى “مُعِد ممثل” ليشرف على أدائهم ويضبط أدواتهم لأن مبالغتهم في الأداء كانت واضحة في محاولة لإثبات أنفسهم من مبدأ “جذب الأضواء أكثر” فطغت الأنانية لديهم في إبراز وجودهم على سياق العمل ككل.
  • شخصية محمد خاوندي الذي أكمل شخصية سليمان رزق في الزمن الحديث لم تكن متناغمة بتاتاً مع الشخصية الشابة لا في العمر ولا الشكل ولا التصرفات.
  • وإظهار فكرة أن كل متدين هو شخص إرهابي وإقصائي باتت مستهلكة، فالشارع كان موجوداً في دمشق ضمن بيئة مسلمة ولم يتعرض له أحد في الواقع مثلما شاهدنا في العمل حين هجم المتطرفون على أهل الشارع في مشهد هو أقرب لأفكار الأعمال الشامية كباب الحارة وغيره، فلم تُضِف هذه المشاهد للعمل ما يُذكَر.
  • أما القبلات التي أثارت الضجة قبل العرض فهي لم تكن بغالبتيها موظفة في العمل، ولم تكن ممتعة “كقبلة مراد لميرامار في السينما تحت غطاء الملاءة الذي يرتديها، فرغم رمزية المشهد إلا أنه غير منطقي”وقد أفقدت القبلات المتعة بدل أن تُغنِيها لأنها تكررت كثيراً دون مبررات.
  • ومن الضروري برأي المخرِج حسب تصريحاته كسر التابوهات في المجتمع ومن حقه إبداء أفكاره وعرضها طبعاً، لكن من الأفضل لو تم توظيف هذه القبلات والمشاهد الساخنة بالشكل الصحيح كما فعل في فيلم “حرائق” في مشهد جمع نانسي خوري بمازن الجبة وكان مشهداً مهماً جداً رغم جرأته، وعموماً فإن العرض المفتوح للعمل غالباً لن يحتوي على هذه القبلات والمشاهد بحكم أن المسلسل سيتم إعادة مونتاجه وصياغة مشاهده بشكل جديد، وهي خطوة جيدة من الشركة المنتِجة والمخرج، فمَن يرغب برؤية هذه المشاهد عليه بالدخول عبر الإنترنت “بمحض إرادته” ليشاهدها، أو دفع اشتراك القناة المشفرة، عكس التلفزيون المفتوح الذي قد يفرض نفسه على آراء وعقليات مختلفة لا تتقبل هذا المحتوى، كما إن إعادة المونتاج قد تصحح للعمل أخطاءً وقع فيها.

قبل أن نغادر شيكاغو…

  • لا يمكن نكران أن المسلسل حقق حالة من الضجة والمتابعة وأثبت وجوده وانتشاره في الساحة، وأصبح العمل حديث الشارع والصحافة، رغم الانقسام الذي حصل عليه، بين معجب وناقد وهي حالة صحية إجمالاً.
  • وكشف العمل عن أداء متقَن لبعض نجومه، فاستطاعت سلاف فواخرجي أن توحي لنا أنها عمياء فعلاً ولو خانتها النظرات أحياناً، لكنها كانت سيدة جميلة تشبِع الكثير من المَشاهد بالحب مع الفنان مهيار خضور الذي لعب على الشخصية بهدوء وكان متقِناً لها، كذلك جوان خضر الذي قدّم دوراً لبِسَه بكل تفاصيله وصدَّقه الجمهور كثيراً لِما استخدمه من أدوات مختلفة، وكان هذا الدور مهماً لجوان بعد عملين سيئَين قدمهما في رمضان وهما “الجوكر” و “يوماً ما” اللذان أخفيا قدراته،
  • كما أطل عباس النوري بهيبة الفنان المتميز الذي قدّم دور العاشق القوي والمكسور في آن واحد بإتقان جليّ، وأكمل جمال قبش شخصية برهان بحرفية عالية جداً فلم نفرق بين الشخصيتين لجمال أدائهما وكأنهما فعلاً شخص واحد، في حين برزت أمل عرفة بشخصية سماهر التي علِقت في أذهان الجميع بأدائها الذي كان لافتاً بحق، ما أعادها للشاشة بروح مختلفة وجديدة أضافت عليها حركاتها وكلماتها وتصرفاتها رونقاً مختلفاً، فالسوشال ميديا انشغل بعباراتها “لأ لأ لأ لأ” و “لاحقين نموت”، وكذلك فعل مع عبارات شكران مرتجى “أخلاً وسخلاً” و “خبيبتي” حيث أضافت شكران بسمة لطيفة بشخصية ستيلا للعمل ولم تحتَج أمل أو شكران رغم عملهما في الملاهي الليلية لمشاهد من القبلات الساخنة كي تثبِتا نفسيهما في ساحة العمل، فالأداء يفرض نفسه بنفسه.
  • قدمت نظلي الرواس ووسيم الرحبي أيضاً ثنائية ممتعة خارجة عن سرب باقي الثنائيات، وكان أداؤهما لافتاً وحقيقياً ويمكن تصديقه بحب أكثر من باقي المغرَمين في العمل.
  • مصطفى المصطفى يبدع من جديد في دور كرمو ليضيف نجاحاً آخر له بعد “مقابلة مع السيد آدم” ويثبّت أركانه أكثر بكل احتراف.
  • العمل كشف عن عدة وجوه شابة قدّمت دوراً لا يمكن تخطيه، فعُلا سعيد برزت بدور شمس كفنانة قادرة على صنع حالة للشخصية وتعلّم في عقول الناس، ومن الواضح أنها اجتهدت على نفسها ونجحت في ذلك، كما قدّم حسام سلامة شخصية رائعة لنعمان كحل الليل بتعابير وجهه وعينيه وحركاته التي كانت حقيقية جداً، كذلك الأمر بالنسبة لسليمان رزق الذي أدى شخصية سهلة ممتنعة، ليثبت أنه فنان قادم بقوة.
  • شكّلت كلمة “باتاتا” للفنان الشاب مهران نعمو علامة فارقة عند الجمهور ليس فقط لغرابتها، بل لأن الشخصية كانت متميزة جداً، حيث استطاع مهران أن يظهر للجمهور بشخصية يتعرف عليه الناس بها ولا ينسونها بسهولة.
  • الديكور والأزياء والمكياج كان مشغولاً عليهم بتعب واضح وعناية رغم بعض الهفوات، إلا أنهم أبرزوا ملامح مختلفة لدمشق أيام الستينات، ولشكل وأزياء نسائها ورجالها، هذا الملمح الذي بقي مختفياً طويلاً عن العيون في المسلسلات السورية ومهمّشاً أيضاً.
  • يتضح التعب والجهد الكبير المبذول في شارع شيكاغو، خصوصاً أن التصوير استغرق ما يقارب ثمانية أشهر ووقفت في وجهه أزمة كورونا، فتوقَّفَ ثم عاد من جديد واستمرّ حتى في أثناء عرض المسلسل!، وهذا ما أوقعه في بعض الأفخاخ التي قد يتلافاها في المونتاج الجديد.

لقد قدّم محمد عبد العزيز مادة بصرية غنية في اللقطات والألوان والإخراج لكن الرموز لم تكن واضحة للكثيرين للأسف فكانت السينما “فوق” البيوت وتعلوها وليست فيها، لأن العديد من المُشاهدين لم يرَوها وكانت أعلى من قدراتهم.