«بقعة الضوء» التي عرّت الكوميديا

بقلم: عبد الهادي الركب

قليلة هي الأعمال الدراميّة التي تمكّنت من بناء علاقة وطيدة مع جمهورها، في تاريخ الدراما السوريّة هناك أعمال خالدة لا يقوى متابعوها على نسيانها، كأن نتحدث عن “أيّام شاميّة” مثلاً، الذي فتح الباب لأعمال البيئة الشاميّة المتواجدة اليوم.

يمرّ الجمهور على هذه الأعمال بين الحين والآخر على الرغم من انقضاء سنوات على إنتاجها، وربّما يعود ذلك لذكاء هكذا أعمال بصياغة مواد بصريّة جادّة في المضمون، قريبة للشّارع، تحمل همومه في روحها، وتمضي لتنقلها بحب نحو الشّاشات.

الكوميديا، أو “الملهاة” بحسب ما عرّفها العرب، أبرز ما يُقدّم على مائدة رمضان، يتنافس صنّاعها في كلّ موسم على كسب انطباع “العمل الأكثر قدرة على إضحاك المشاهد”، عبر رسمه ضحكة حقيقيّة تخلو من التكلّف. لكن، قليلون من يتّمتعون بالوعي وبالفهم الكافيين لمفهوم الكوميديا، وامتلاك أدواتها، والبراعة في تنفيذها.

“بقعة ضوء: ضوء على الكوميديا الحقّة”

“بقعة ضوء”، يعتبره كثيرون بمثابة كأس الشّاي بعد الإفطار، يتلذّذ الصّائمون بمذاق لوحاته باستمتاع صادق، فقد حجز موعداً له في قلوب السوريين لسنوات، بل تجاوز الحدود، ليصل منازل العالم العربي، بتقديمه الواقع على “طبق ساخر”، بمضمون مهم وبصناعة متقنة، عبر أجزاء عديدة تناوب على إخراجها كُثر أمثال ” هشام شربتجي وناجي طعمي والليث حجو وسامر برقاوي وسيف الشيخ نجيب”، وساهم في تأليف لوحاته كتّاب بارزون ” كممدوح حمادة ودلع الرحبي ومازن طه ومحمد أوسو .. “.

وعلى الرغم من خصوصيّة اللوحات التي قُدّمت، وربّما انحسارها في أزقّة الشارع السوري، إلّا أنه استطاع نقل الهموم إلى خارج تلك الأزقّة، ليكشف أنّ القضايا واحدة، وأنّ الكوميديا الناجحة قادرة على تمديد خيوطها لتصل منازل الجميع على اختلاف همومهم.

إنّه “كوميديا الأفكار” التي ترتبط بقضايا مجتمعها، الكوميديا الحقّة التي نزلت إلى قاع المجتمع؛ لتعرّي جسده المثقل بالمعاناة، فحقّق هدف الكوميديا الذي يتمثّل بتشريح البنية الاجتماعية للشّعوب، عبر تقديم مادة نقدية لاذعة، لا تخلو من الابتسامة، ولكن سرعان ما تتحوّل هذه الابتسامة إلى صفعة خذلان، كانت قد اختبأت خلف تلك الابتسامة.

قبل ستّ سنوات، صرّح الفنان “فادي صبيح” أنّ “حالة الانسجام والتفاهم بين أفراد أسرة عمل بقعة ضوء” كانت من أهمّ عوامل نجاحه، وبالتالي فإنّ هذا التصريح يوضّح سبب عدم وجود كوميديا متقنة اليوم؛ لافتقارها للانسجام والتفاهم بين نجومها، ممّا أدّى إلى تصدير أعمال قائمة على مبدأ النجم الرئيسي الواحد.

شارة نحو قمّة الكوميديا السوداء”

عندما ينشد صنّاع الفن عملاً متكاملاً، فإنهم يهتمّون بكل عناصره دون محاباة، وهذا ما حدث عند إنجاز شارة “بقعة ضوء”، التي تعتبر واجهة للعمل، حيث استطاع “طاهر مامللي” المساهمة في إضفاء عنصر نجاح آخر يحتسب، عبر تقديم موسيقاه العبقرية، فأدخل نوعاً غنائياً جديداً إلى الدراما العربية لم يسبقه عليه أحد، وهو نمط “Scat” الذي يقوم على غناء مقاطع لحنيّة دون كلمات، والذي يحتاج بدوره إلى صوت ذي أداء مبهر، ومثقّف موسيقياً، كصوت مغنيّة الأوبرا السورية “ديما أورشو”، الذي استعان به إلى جانب “عاصم سكّر”، لتأدية الشارة والموسيقى التصويرية.

فامتازت الشارة بالمزج بين اللحن الغربي والسّلطنة العربية، وعند ذلك، تم إيصال العمل إلى قمّة الكوميديا السوداء في كل لوحة.

“ببساطة”: كوميديا استدرار الضّحك بلا إتقان

على مدى عامين متتالين، ظهر عمل “ببساطة” في السّوق الدراميّة، على أنّه عمل “كوميدي” جديد، ربّما كان الهدف منه التبشير بكوميديا جديدة، في ظلّ خلوّ الشاشات من هذا النوع من الأعمال، لكنّه سرعان ما آل للسقوط منذ بدء عرض الحلقات الأولى، ربّما لافتقاده لأدوات صناعة كوميديا التي تتّصف بندرة إتقانها، واعتماده على نجم رئيسي واحد قد يظهر في كل لوحات الحلقة الواحدة، ممّا يجعل العمل يفتقد التوازن على صعيدي الممثلين والأداء.

ببساطة شديدة، لقد وقع “ببساطة” في فخ استدرار ضحك الجمهور بلا أدنى إتقان، ممّا أدى إلى عدم تقديم عمل كوميدي محترف، مشدود الوثاق، بدءاً من الكتّاب، وصولاً إلى الممثلين والمخرج.

ربّما يجب على الكثير من صنّاع الأعمال الذين يعتقدون أنّها “كوميدية” أن يأخذوا بالحسبان تاريخ الكوميديا الكبير الذي قدّمته الدراما السورية ابتداءً من “مقالب غوّار” وصولاً إلى “بقعة ضوء”، ليدركوا حجم المنافسة التي يواجهونها، لأنّ “الشمس لا تُغطّى بغربال”!