هوانم سوريات أطربن الجمهور، ومن الطرب ما قتل

بقلم: الدومري

كثيراً ما سمعنا في الأدب العربي عن الشاعر المتنبي الذي قتله شعره، هو الذي أثرى ديوان العرب بقصائد من عيون الشعر العربي، ولكن الذي قدّم له هذا الاسم الكبير، قتله في النهاية، ونسمع في قصص الحب عن عشّاق قتلوا بعضهم لكثرة الحب والعشق، فماذا عندما تؤذي الأغنية أصحابها وتتحول لذكرى حزينة في حياة الفنان، قد تقتل الفنان بنجاحها أو تنتظره حتى يموت لتولد، أو تولد في حنجرة أخرى.

الدومري سيضيء اليوم فانوس على أغاني لفنانات سوريات أطربت الجمهور العربي، ومن شدة جمالها أذت صاحباتها.

لطالما سمعنا عبارة في الوسط الفني تقول بأن الفن يولد في القاهرة ويعيش في بيروت ثم يموت في دمشق، وكثيرة هي الحوادث التي أكّدت أن مزمار الحي لا يطرب، لذا يسافر المزمار لحيٍ أخر باحثاً عن فرصة للحياة، وهذا ما قامت به عدد من الفنانات السوريات اللواتي تركن بصمة عبر تاريخ الفن بحيث هجرن العباءة السورية عند بردى ليتوشّحن برقعاً مصرياً على ضفاف النيل، قدّمن الكثير للأغنية العربية، ولكن الضوء الذي يضيء درب الفراشة، يحرقها في النهاية.

“نغم فى الجوّ له رنّة سمعها الطير بكى وغنّى”

https://www.youtube.com/watch?v=W5yZvZEnCks

البداية مع أميرة الجبل السوري آمال فهد الأطرش المعروفة فنياً بأسمهان كما لقبها داود حسني، ولدت بباخرة حملت عائلتها من تركيا إلى بيروت، وقال لها عرّافاً: ولدتي في الماء وتموتي في الماء.

انتقلت اسمهان مع عائلتها لمصر إبان الثورة السورية الكبرى وسرعان ما أصبحت مطربة من الطراز الرفيع، وغنت لأفضل ملحنين العصر كالسنباطي والقصبجي وشقيقها فريد الأطرش.

وفي يوم ريثما كانت تصوّر فيلم “غرام وانتقام” قامت بالسفر إلى رأس البر لتمضية فترة من الراحة هناك يوم 14 تموز من عام  1944 برفقة صديقتها ومديرة أعمالها “ماري قلادة”، وفي الطريق فقد السائق السيطرة على السيارة فانحرفت وسقطت في الترعة (ترعة الساحل الموجودة حالياً في مدينة طلخا)، حيث لقت مع صديقتها حتفهما عن عمر ناهز 32 سنة.

وقيل حينها أن من قتلها هي المخابرات البريطانية التي تعاملت معهم، ومنهم اتهم زوجها أحمد السالم الذي كان قد حاول أن يطلق عليها النار قبلاً، ومنهم اتهم زوجها السابق الأمير حسن الأطرش، بالإضافة لاتهامات طالت أم كلثوم وشقيق اسمهان فؤاد الأطرش، وبقيت الحقيقة غير معروفة حتى اليوم.

المشكلة كانت أنها لم تنتهي من تصوير فيلم “غرام وانتقام” فاضطر يوسف وهبي لإحضار ممثلة بديلة لتصوير بعض المشاهد، وأوضح يوسف وهبي في برنامج تلفزيوني أنه قبل دفنها أظهر جثمانها في آخر مشهد بنهاية الفيلم بعد الحادث المشئوم.

وأخر أغنية في حياتها كانت ليالي الأنس في فيينا من ألحان فريد الأطرش وكانت من أغاني الفيلم التي أبصرت النور بعد رحيلها، وبالفعل كانت اسمهان نغم في الجو له رنّة وبكي الطير بعد رحيلها.

“الليالي اللي عاشها الحب وياك ملكي وحدي، مهما تبعد مش هتاخد ليلة وحدة من اللي عندي”

كروان الأغنية العربية فايزة أحمد، السورية التي عاشت في دمشق ورفضتها الإذاعة، وسافرت لمصر ليقدمها للإذاعة صلاح زكي، وأصبحت واحدة من أشهر نجمات الزمن الجميل، وغنّت لكبار الملحنين كعبد الوهاب والموجي وبليغ حمدي ومحمد سلطان.

غنّت أغنية “يا حبيبي يا متغرب” التي لحنها بليغ حمدي لميادة الحناوي ولكن قالت له فايزة: “الأغنية دي بتاعتي” وأخذتها.

وبعدها بدأت مشوار العذاب مع المرض، وكانت أخر أغنية في حياتها نذير شؤم لأنها الأخيرة في حياة الشاعر والملحن والمغنية !

كتب حسين السيد أغنية “لا ياروح قلبي” وبدأ بتلحينها رياض السنباطي ولكنه رحل قبل أن يتممها فأكمل اللحن ابنه أحمد السنباطي وقبل أن ينتهي توفى الشاعر حسين السيد قبل أن يشهد ولادة الأغنية، وفايزة أحمد كانت مصابة بالسرطان وتتلقى العلاج في أمريكا رغم أن حالتها ميؤوس منها طبياً، وأثناء عودتها لمصر وتلقيها العلاج الكيميائي أصرّت على دخول الاستديو وتسجيل الأغنية، فسجلتها وهي جالسة ومتكئة على وسادة هوائية، والشجن الذي كان بصوتها بسبب المرض توافق ولحن الأغنية، وسجلت الأغنية ورحلت وكأنها تقول للموت مش هتاخد ليلة وحدة من اللي عندي !

“متى ستعرفُ كم أهواكَ يا أملاً أبيعُ من أجلهِ الدنيا وما فيها”

هي صاحبة السكون الصاخب كما لقبها محمد عبد الوهاب وابنة الخطاط الدمشقي الشهير محمد كمال حسني البابا وابنة أخ الفنان أنور البابا المعروف بشخصية “أم كامل”.

هي نجاة الصغيرة التي سافر والدها للعمل للعمل في القاهرة وكان بيته معروفاً ببيت الفنانين، تدربت على أغاني أم كلثوم حتى بدأت بأغانيها مع أشهر ملحنين العصر مثل عبد الوهاب، الموجي، بليغ حمدي، وسيد مكاوي وغيرهم.

وجمعتها علاقة خاصة بالشاعر السوري نزار قباني الذي اعتبرها أفضل من غنّى له.

وكان هذا النجاح رافداً لنجاة في السنوات اللاحقة، في الفترة التي كان يواجهها صعوبة في العثور على قصائد جديدة وما يقابلها من الألحان الموسيقية. وللتغلب على هذا النقص في القصائد والألحان، اضطرت نجاة إلى الاعتماد على قدراتها الخاصة في الأداء.

على سبيل المثال: في عام 1976، يوم كانت في سن 37 عاماً، قدمت العديد من الأغاني في فيلمها الأخير “جفت الدموع”  إحدى هذه الأغاني أغنية “متى؟”، وهي قصيدة كتبها نزار قباني ومن ألحان محمد عبد الوهاب، وكانت مدة هذه الأغنية في الفيلم أقل من عشر دقائق، لكن بعد نجاح الأغنية، وفي السنوات التي تلت ذلك الفيلم، غنت نجاة هذه الأغنية عدة مرات على خشبة المسرح. وكانت آخر مرة في عام 2002 (قبل الاعتزال).

وفي واحدة من الحفلات التي قدمتها نجاة في الثمانينات، عندما كانت في الأربعينات من عمرها، أدت نجاة أغنية (متى؟) على المسرح بأداء استمر لما يقرب من ساعة ! في هذا الأداء، مددت هذه الأغنية من 10 دقائق إلى حوالي ساعة كاملة على المسرح، علماً أنّها غيرت بعض الكلمات فمثلاً متى ستعرفُ كم أهواكَ يا رجلاً جعلتها أملاً، وكأن النجاح الكبير حرمها أي فرصة لتقديم مستوى مشابه.

” فاكر لما كنا في أبو سمبل والمناظر شيك وسمبل وقابلنا شيرلي تيمبل وتصاحبنا مع العساكر، فاكر ولا ناكر ؟!”

بذكر نجاة الصغيرة لا ننسى أختها أي الساندريلا التي استلهمت من اسمها عنوانها فبالسعادة والحسن أصبحت سعاد حسني التي اكتشفها الشاعر عبد الرحمن الخميسي الذي أشركها في مسرحيته هاملت لشكسبير في دور «أوفيليا»، ثم ضمها المخرج هنري بركات في فيلمه حسن ونعيمة، وتوالت بعدها تقديم الكثير من الأفلام والأغاني.

وربما أجمل فيلم في حياتها كان قصة حبها مع العندليب عبد الحليم حافظ الذي كان يُرسل السواق الخاص به لمنزل زهرة العلا حيث تسهر سعاد ليعرف أرقام السيارات الموجودة، ومن المفارقات أن تاريخ وفاتها هو 21 حزيران عام 2001 ويطابق نفس يوم مولد عبد الحليم.

توفيت إثر سقوطها من شرفة الطابق السادس من مبنى ستيوارت تاور في لندن وأشرف على علاجها في نهاية حياتها “جراح بريطاني” كما غنّت في أغنية يا واد يا تقيل.

وقد أثارت حادثة وفاتها جدلاً لم يهدأ حتى الآن، حيث تدور شكوك حول قتلها وليس انتحارها كما أعلنت الشرطة البريطانية، ويعتقد الكثيرون، خاصةً عائلتها أنها توفيت مقتولة، ولكن بعد ثورة 25 يناير والقبض على صفوت الشريف أعادت شقيقتها فتح القضية والمتهم الأول فيها هو صفوت الشريف رئيس مجلس الشورى الأسبق.

والمثير أنها قبل الرحيل سجّلت أغنية بعنوان “فاكر ولا ناكر” من كلمات صديق عمرها صلاح جاهين، ومن ألحان هلكوت زاهير، ولم تصدر حتى العام الفائت، وهل من المعقول أن تغني المناظر شيك وسيمبل وتنتحر؟!.

ولم نعرف إن كان سبب القتل هو المصاحبة للعساكر كما قالت في الأغنية الأخيرة، أم بسبب ثقتها بمن حولها علماً أنها قالت لهم في أغنيتها: “بانوا بانوا على أصلكم بانوا”.

“ومين يصدق يجرى كده كله، ونعيش سوا العمر كله في يوم وليلة”

لا تستغربوا فهذه الأغنية كُتبت ولُحّنت لمطربة الجيل السورية ميادة الحناوي. وإليكم القصة:

التقت ميادة  ببلودان مع الموسيقار محمد عبد الوهاب وغنّت لسه فاكر لأم كلثوم وكانت معها شقيقتها فاتن الحناوي، واتفق معها عبد الوهاب على أن تسافر للقاهرة، وبالفعل سافرت وبقيت سنتين تقريباً وذلك بنهاية السبعينات.

قدّم عبد الوهاب اكتشافه للناس بحفلة فنية غنّت فيها ميادة “ودارت الأيام ولسه فاكر” ووقّع معها عقد مدة ٥ سنوات لصالح شركة الفن.

وطلب من حسين السيد أغنية شبيهة بـ”بعيد عنك”، فكتب “في يوم وليلة”.

وفي يوم وليلة انقلبت الأمور وطلبت السورية نهلة القدسي زوجة عبد الوهاب من وزير الداخلية اللواء نبوي إسماعيل أن يرحّل ميادة من مصر.

سافر عبد الوهاب للجزائر، وبعد يومين تم ترحيل ميادة لسوريا من بيتها في الزمالك وهي تستعد للذهاب لمنزل فايزة أحمد ومحمد سلطان.

وبعد فترة من البقاء بحلب سمعت على الراديو أغنية “في يوم وليلة” بصوت وردة الجزائرية، وفاتت سنة وعدة سنوات بلغوا 13 سنة حتى عادت إلى مصر.

وفي هذه الفترة كان يتم تلحين الأغنيات في مصر وإرسال الديمو لميادة في سوريا، ثم يسافر الفريق مع ميادة لليونان للتسجيل، كان يجتمع في رحلة واحدة: عمار الشريعي، سيد مكاوي، محمد الموجي، حلمي بكر، محمد سلطان، لا يجتمعوا في مصر ، ولكن اجتمعوا في اليونان كرمى مطربة الجيل !!

وبالفعل ومين يصدق يجرى ده كله مع ميادة الحناوي.

لذا العبرة قبل أن ينتهي فتيل فانوسي، كثيرة هي الأغاني التي خانت أصحابها وصدرت بعد رحيلهم كقارئة الفنجان لعبد الحليم، يوم ليك ويوم عليك لذكرى، كرمال النسيان لملحم بركات وغيرها، ومنها من ينتقل لمطرب لأخر، ولكن معظم الشعب السوري لا يعرف تفاصيل هذه الأغاني كما يعرفها الشعب المصري وحتى ربما لا يعلم أن هذه النجمات سوريات !

في كل عام نرى احتفال لتكريم النجوم في مصر ومعهم هذه الأسماء، ونحن لا نعلم أن بناتنا ونجماتنا هنَّ لنا، ربما لا كرامة لنبي في بلده ولكن على الأقل ألا ينكره هذا البلد !