عندما تشيخ الذئاب: عندما يوحّدنا الخرابُ

بقلم: عبد الهادي الركب

بحركةٍ رشيقة، دارت كاميرا “عامر فهد” لتصوّر حيّاً دمشقيّاً يضمّ مجتمعاً حياتيّاً متكاملاً من حيث البنية، لتتهاوى الشخصياتُ أمامنا واحدة تلو الأخرى.

شخصياتٌ مستوحاة من قلم الروائيّ الفلسطينيّ-الأردنيّ “جمال ناجي”، ليحرّك خيوطها ممثّلون محترفون، استطاعوا بأدواتهم  أن يقنعوا المشاهدَ وحتّى أنفسهم بالأداء المبهر.

شخصياتٌ رسمها “جمال ناجي” في حيّ أردنيّ غارقٍ بهمومه حتى النخاع، حيٌّ يملأه فسادٌ مُستَشرٍ، حيث تتلاشى فيه مبادئ سكّانه أمام مصالحهم، لكنّ السّيناريست “حازم سليمان” أرادَ أن ينقل إحداثيات الحيّ من عمّان إلى دمشق، بكل تفاصيله، وسط مطالبة الجمهور الأردنيّ لأحقّيتهم بإنتاج العمل في بيئة أردنية مطابقة لأحداث الرواية الأصليّة.

لكنّنا لو أقدمنا على تحليل شخصيات الرواية المحرّكة للمسلسل، لوجدنا أنّها تنطبق على معظم بلادنا العربية، فنحن بلاد وحّدها الوجع، وتغلغل بين أحيائها الألم بكلّ أشكاله!

فكلُّ حيّ لا يخلو من شخصية رئيسية أوجدها “جمال ناجي” أَلا وهي شخصية “رجل الدين” الذي تخبّأ بعباءته لتحقيق مصالحه الشخصية، وصفّد خلفها ذئباً بشريّاً أراد تسييرَ الدّين لأهوائه ورغباته، وأطماعه بالمال والسلطة.

إننا غاطسون في مستنقعات من فساد، فساد نهش جدران أحيائنا البسيطة، إلى أن هدمها على رؤوس ساكنيها!

إذن، ما الفرق بين رجل دين هدمَ حيّاً في دمشق أم في عمّان؟!

كلاهما يشتركان بذات الانهدامات!!

ما بين الدراما والرواية

هناك العديد من الأعمال الدراميّة التي لاقت نجاحاً ورواجاً في السّوق الدرامية كانت ترتكز في بنائها على الروايات العربية، و “عندما تشيخ الذئاب” مثالاً حديثاً على ذلك تمّ تسميره على لوح صناعة الدراما ليُصعَد به إلى الشاشة الصغيرة، بفعل الأسلوب الذي كُتبت به الرواية، فهذه الرواية تميّزت باعتمادها على أسلوب “تعدّد الأصوات السردية”، فكلُّ شخصية تحدّثت بلسانها عن تفاصيلها، فجعلت تحويلها من الورق إلى التشخيص أمراً مبهراً.

وعندما نحلّل جوهر الرواية، فهي من أوائل الروايات الأردنية التي تطرقت لطرح الثالوث المحرّم “الجنس- السلطة- الدين” في مجتمعاتنا على الطاولة، لتتميّز بجرأتها بالموضوع، بالرغم من المخاطرة بطرق أبواب مجتمع محافظ كالمجتمع الأردنيّ، وهو مجتمعٌ من الصّعب أن يتقبل مواضيعاً كتلك بسهولة، وذلك لوجود تشابه بين شخوص حقيقية في الواقع، مع شخوص من الرواية، فهي وصلت بذلك إلى تعرية هذا المجتمع بكل تفاصيله.

كما أنّ رواية “جمال ناجي” مطواعة، تستطيع أن تنقلنا إلى أحياء القاهرة ودمشق وعمّان وبغداد، نظراً لتشابه روح وصبغة هذه الأحياء من الجوانب العمرانية وتشابه ثقافة المجتمعات أيضاً السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية.

أداءٌ يطفو على الشّاشة

ذكاء “عامر فهد” باختيار الممثلين يظهر جليّاً في العمل، لا سيّما في كيفيّة إدارة الممثل أمام الكاميرا.

فسلّوم حدّاد استطاع إقناع المتفرّج بشخصيّة “الشيخ عبدالجليل الجنزير” إلى حدّ لا يمكن وصفه، فكان عموداً رئيسياً استند عليه العمل من المشهد الأول في الحيّ، فأداء مخيف كهذا يزيد من ثقل العمل.

وعلى الجانب الآخر تبسط الرزانة بأيديها على الشاشة بوجود شخصيّة “الجليلة” التي لعبت دورها “سمر سامي”، ابنة عائلة الشيّاح، التي عاشت طيلة العمل مع أمجاد والدها، ومتلوّعة من موت أخيها. لتتمكّن “الجليلة” بأرستقراطيّة أدائها أن تغرّد بعيداً، وتجعل من نفسها ملكةً كوّن جسدها العنفوان، لتختم ظهورها بمشهد وداعٍ لا يتكرر، ثم تموت شامخةً مستندةً على عكّاز عائلتها، بينما أضفى “عابد فهد” مسحة متزنة على العمل، قدّمته في مسلسل سوري متكامل بعيدٍ عن الدراما المشتركة، فأثبت للجميع أنه قادرٌ على أن يلبس الشخصية بدقة، ويحرّك بوصلته نحو عمل سوري – سوري قيّم.

أمّا “أنس طيّارة” فأخذ على عاتقه أن يصنعَ من هذا العمل أداءً استثنائياً تُرفع له القبّعة، أداءٌ سيُذكر بمسيرته مراراً وتكراراً، وذلك لامتلاكه الخيوط التي تمكّن من خلالها أن يبني علاقةً فريدةً مع أمّه “الجليلة”، لشابّ طموح كثير الأسئلة، بعيدٍ عن التقليد!

الحقيقة المُرّة التي وضعنا أمامها “عندما تشيخ الذئاب” أنّ بلادنا توحّدت بالخراب، وتقاسمت الألم على اختلاف أحيائها، ممتلئةً بذئابٍ لا تشيخ، تتهادى بيننا على اختلاف أزماننا!