الدراما السورية تستعيدُ قلبَها في باب توما

تضع يدها في قلب ذراعه، حضن من نوع آخر قوامه كتفان يتجاوران دون فراغ هوائي وذراعان يلتحمان ويسيران معاً. وحكاية سترسم معالمها على طرقات دمشق القديمة. حيث لا يمكن للدراما إلا أن تحمل رونق هذا المكان إذا دخلت الكاميرا إليه وعششّ رونق حضورها بين مشاهد تعرض الغرام في سينوغرافيا تقوم على الحارات الضيقة والجدران الموشومة بعبارات المارقين وذكريات قلوبهم.

بقلم: أنس فرج

هذا ما فعلته الدراما السورية حين انتقت في بعض أعمالها رواية الحب من منظور دمشق القديمة، وكأنها تعيد رواية الاسطورة التي افتتح بها المخرج السينمائي محمد عبدالعزيز فيلمه “الرابعة بتوقيت الفردوس” حيث من يعبر تحت قوس باب شرقي سبعَ مرّات في منتصف الظهيرة وقرص الشمس عامودي على القوس تحت طالع فينوس تحققت ثلاث أمنيات أياً كانت.

فكيف إذا كان الحب هو الترجمة الفعلية لعلاقة سكان دمشق بهذا المكان، هناك يخرجون من أعباء حياتهم اليومية ويدخلون من عمق المدينة المحاط بالأدخنة وعوادم السيارات إلى فضاء خاص يقف في وجه الزمن وبلاد متغيرة الملامح نحو استرداد الروح لما ضاع منها.

وهنا جاءت الدراما لتمارس وظيفتها الأرقى في تجسيد واقعية المكان ولو ارتبطت بخيال خصب لا يمكن أن يفارقنا حين التفت ذراع نادين تحسين بيك بذراع جمال سلوم في حلقة “رجعت الشتوية” من مسلسل “أهل الغرام” وضمن لقطات عرضت أضواء الميلاد ووقع الخطوات على الأرض. قالت حينها نادين في المشهد: “قررنا نمشي، ورغم أنو كان الطقس برد كتير بس الي بتذكرو أنو كنت مبسوطة كتير”.

يحضر للذاكرة مشهد آخر جمع نجمي الدراما باسل خياط وديمة قندلفت في المسلسل الاستثنائي “وشاء الهوى”، والذي اقترنت شارته بدرج النوفرة الشهير وحائط المسجد الأموي وصوت لينا شاماميان تغني “كم رغبنا، كم حلُمنا، كم تمنينا وشئنا.. وشاءَ الهوى.. فامتثلنا”. في المشهد الحاضر في الذاكرة ديمة وباسل يتناولان “مناقيش” في دمشق القديمة وديمة تسأل باسل عن حلمه وتعبر “حلمك حلو.. معليش اسرقو”.

اعتراف آخر في شوارع دمشق القديمة بين محمود نصر ودانا مارديني في “الندم”، الطالبة الجامعية القادمة من حمص تغرق في هوى الشاعر الدمشقي الثري وتبادره الاعتراف بالحب في الحارة الضيقة فيتسع الزاروب الصغير لمدى شاسع من عبارات الهوى التي تبادلها العشاق فيما بينهم إثر هذا المشهد.

استحضار للشوارع العتيقة لعبه المخرج حاتم علي في مسلسل “قلم حمرة” وهناك كان موقع الأحداث المفترض بار في منطقة باب شرقي، تفاصيل الشارع القديم في مدينة جبيل اللبنانية وتشابهه مع جغرافيا دمشق القديمة دفعت الجمهور لتصديق ما يرى، والعودة لتفاصيل المطر حين يهطل في تشرين على تلك الحارات ولعل حوار الأم منى واصف وبطلة المسلسل سلافة معمار حول طلاق المرأة ووجهة نظرها العلمانية في السيارة كان الأكثر ارتباطاً في المكان وحفراً في ذهن الجمهور.

وصولاً لـ “شوق” حيث تنافست نسرين طافش وجوان خضر في تدوين عبارة عن الغرام على حائط قديم في دمشق وهناك ارتبط ذكرى مروهم في المكان بلقطة حمل جوان لنسرين على يديه والكتابة على الحائط.

لم تخلُ أعمال أخرى من نوستالجيا دمشق القديمة، ها هي “فيحاء” تقبّل مدخل المنزل في “ضبو الشناتي” لكنّ الغرام كان الأكثر مناجاة للشوارع حيث ما تزال قصص الحب تهطل كل يوم ترويها أقدام المارة، أصواتهم المتداخلة وتعبيراتهم في الاعتراف ضمن جغرافيا هذا المكان. وكأن حارات باب توما تحفظ ملايين الأسرار التي رويت هنا ولن تنسفها حرب أو تمحيها هجرة. ولعل المطاعم إذا غيّرت أسماءها والمقاهي ديكورها، فلن يتغير ذاك العبق الأثير بكافة تفاصيله البسيطة.

كتِفان يتحديان الزمن، جرأة للاعتراف في الحارات المُعتمة وقبلات ليست هاربة تحفر على أخاديد المكان صورَ عشاقٍ مروا.. وامتثلوا من أجل عيون من يحبون!