بين هارون و المُهَلّب.. سيفُ مَن انتصر؟

عادت في رمضان الدراما التاريخية بقوة، ففي خطوة ملفتة أعلنت شركة “غولدن لاين” عن مسلسل “هارون الرشيد” وعن الأسماء الكبيرة المشاركة فيه، حيث لعب دور هارون النجم قصي خولي وبجانبه عدد لا يُستهان به من أهم نجوم الدراما السورية والعربية مثل: كاريس بشار، كندة حنا، عابد فهد، سمر سامي، ياسر المصري، عبد المحسن النمر، أسيل عمران، سامر اسماعيل وغيرهم، لتعلن مؤسسة أبو ظبي بعدها بقليل عن قرار إنتاج مسلسل يروي سيرة حياة القائد “المهلب بن أبي صفرة”، ولعب دوره النجم السوري الشاب “معتصم النهار” إلى جانب أسماء سورية وعربية مرموقة مثل: منذر رياحنة، ديمة قندلفت، خالد القيش، روبين عيسى.

الإعلانان جذبا الجمهور رغم التفاوت في الزخم الإعلاني بينهما، حيث حظي هارون بتهليل واسع باعتباره أضخم إنتاج بالإضافة لوجود أسماء عربية كبيرة فيه، وتصويره في دولة الإمارات، على عكس المهلب الذي لم يلقَ صدىً دعائياً واسعاً حيث عُرِضَ على قناتي أبو ظبي والإمارات فقط وتم تصويره كاملاً في سوريا، فكيف كانت النتيجة بعد العرض يا ترى؟


هارون الرشيد لكاتبه عثمان جحا و مخرجه عبد الباري أبو الخير نال الحصة الأكبر من العرض على العديد من القنوات المصرية والخليجية وغيرها، لكن ما إن يدخل المشاهد في المضمون حتى يكتشف أنه وقع في فخ متابعة عملٍ غريبٍ، فتساوره الشكوك ويسأل “هل حدث هذا حقاً؟”
لم يحترم المسلسل حياة هارون الرشيد الخليفة العباسي الأشهر فقدمه بطريقة لا تليق بشخصية سياسية عظيمة مثله، وذلك من خلال أسلوب رديء يدل على ضعف كبير في النص وفجوات تاريخية خانقة، حيث يبدأ العمل متصاعداً بقوة في حلقاته الأولى، ليسلط الضوء على حقبة مهمة من حقب الرشيد وهي صراعه مع أخيه موسى الهادي على الحكم فيبدو العمل ببدايته أن هناك أحداثاً مشوقة، لكن ما يلبث أن يستلم الرشيد الحكم بعد أربع حلقات وتموت الشخصيات الرئيسية موسى الهادي وهو عابد فهد، والخيزران وهي سمر سامي، ثم نجد عبارة “بعد خمسة عشر عاماً!”
ينصدم الجمهور!! فكيف يحدث هذا ونحن أمام عمل تاريخي يجب أن يقدم حياة هذا الشخص من الألف إلى الياء؟ ألم يكتفِ الكاتب بعرض سيرته من المنتصف وليس من وقت ولادته؟
يغضّ المشاهد الطَّرفَ عن هذا الأمر ويكمل المتابعة عَلّه يجد مسوّغات، فيقف حائراً، أهو يشاهد حريم السلطان أم هارون الرشيد؟؟

فالتركيز الأكبر لم يكن على المؤامرات الداخلية والخارجية المحاكة من البرامكة ضد هارون الرشيد، بقدر ما تم التركيز على قصص الجواري ومجالس الغناء والرقص وحكايا الوله، فمن الواضح أن طقوس العمل خيطت لتكون دراما تركية الصنع، مليئة بقصص حب وغرام وفراق وتصدعات اجتماعية عاطفية يتخللها القليل من السرد التاريخي الذي لم يكن كله حقيقياً في العمل أصلاً.
فضلاً عن ذلك لم يحتوِ المسلسل على عناصر كومبارس فعالة، حيث نشاهد قصوراً شبه خاوية من الجنود أو الخدم، مما أوقع المخرج في أخطاء عدة، فعدا عن تضييق مساحة الكادر لظروف إنتاجية، كانت مشاهد المبارزة غير مقنعة البتة، فبعد ضربة سيف أو ضربتين يقع المقاتل أرضاً وكأنه فيلم كرتوني، مما يوحي أن المقاتلين لم يُمَرّنوا على هذه المشاهد.
الأداء الأقوى كان لسمر سامي رغم تواجدها في الحلقات الاولى فقط، وعابد فهد أيضاً استطاع لبس عمامة الخليفة موسى الهادي بكل قوة وشموخ، أما كاريس بشار فأدت دورها بحرفية رغم أنه ومن الأفضل لها ألا يُحتسب عليها هكذا دور لم يبرِز نجوميتها التي اعتدنا عليها سنين طوال و لم يظهِر أدواتها الخاصة التي لا يضاهيها فيها، أحد وكذلك قصي خولي صاحب شخصية هارون الرشيد الذي لم يُوَفَّق بأدائه مما جعلنا نشعر أننا نشاهد نجماً آخر، قصي لم يكن ذاته الذي شاهدناه في الولادة من الخاصرة أو الزير سالم
فالاصطناع في الأداء واضح تماماً، والشخصية جاءت كبيرة على حجم قصي أو أن قصي حجّمها، فتغيير صوته جعل من الشخصية فجّة وغير متلائمة مع الخليفة العباسي مما يدل على أن انتقاءات خولي غير موفقة في السنين الأخيرة وكأنه يعمد أن يطفئ نجمه بيده.

 

الأخطاء التاريخية التي وقع بها العمل عديدة بعضها كان بشخصية هارون الرشيد نفسه وأخرى في الأحداث التي تدور حوله، فمثلاً حين استلم الرشيد الحكم لم يكن عمره قد تجاوز الثانية والعشرين، في حين وجدنا شخصية قصي خولي كما هي بدون أي مكياج يعمل على تصغير ملامحه عمرياً،فبدا رجلاً أربعينياً وليس شاباً في العشرينات. وبقي كذلك حتى بعد مرور 15 عاماً في المسلسل، أي لم تتغير تلك الملامح أو تصنع فرقاً جلياً سوى في حلاقة الشعر والصوت الأجش المصطنع الذي لا مبرر له، أما لقصة أحمد بن هارون الرشيد حكاية أخرى، فقد دوّنت الكتب والمراجع أن لهارون الرشيد ولداً اسمه أحمد أنجبه من زواج سري في شبابه من امرأة اسمها العصماء وهذا الشاب لم يرَ والده الرشيد لأنه كان ناسكاً متعبداً، إنما أوصى صديقه الذي يسكن عنده قبل أن يموت وهو شاب أن يذهب للقصر ويخبر أبيه الرشيد عنه، فعندما درى هارون بذلك بكى فوق قبره أياماً طوال، كما أن أحمد لُقِّبَ بأحمد السبتي نسبةً إلى عمله في يوم السبت فقط بصناعة الطين والفخار، ليحصل على قوته ثم يتعبد بقية أيام الأسبوع، أما في العمل فقد تم تحوير هذا كله، فلم يُذكر أن أحمد لقبه السبتي ولم نجده يصنع الفخار بل يبيعه في كل أيام الاسبوع وليس يوم السبت!! كما أنه استدل على خمارة أصبح يتردد إليها وعَشِقَ فتاةً غانية، علماً أن السبتي لم يتزوج ومات شاباً في العشرينات ولم يقرب النساء والخمر، مما يقدم صورة خاطئة كلياً عن تاريخ يتسنى للجميع معرفته ولا يستطيع أحدٌ نكرانه.
كما تقول مراجع التاريخ أن الرشيد كان يحجُّ عاماً و يقاتل عاماً ويقرأ الكثير من القرآن الكريم في صلواته في حين أننا لم نرَ مشهداً للرشيد وهو يقرأ القرآن أو يصلي أو حتى يقاتل أو يحج، إنما كانت مهمته التنقل بين مخادع النساء اللاتي تزوجهنّ والجواري اللاتي مَلَكَهن و وقعنَ في غرامه، مع العلم أن الرشيد تزوج أكثر من ست نساء عدا الجواري وأنجب منهن أكثر من عشرين ولداً وبنتاً، فهو حقاً كان زير نساء إلا أن هذا لا يعني أن يركز العمل على الجانب العاطفي والجنسي فقط للخليفة العباسي مبتعداً عن ذكر أولاده أو نسائه الذي يشكل عددهم قبيلة كاملة ويسلط الضوء فقط على زبيدة والأمين والمأمون!! أين باقي العائلة إذن؟


أما العباسة أخت هارون والتي قامت بدورها الفنانة كندة حنا فمن المعروف أنها كانت شاعرة عظيمة في ذاك الوقت، إلا أننا لم نجد أي ملمح شعري لها ولم تقل بيت شعر واحد في كل المسلسل، ولم نشاهد أولادها الذين أنجبتهم، بل فقط تابعنا قصة حبها مع البرمكي والتي كانت حواراتها معه مكررة بمفردات ثانية.


إذن لم يستطع الرشيد نقل صورة حقيقية و حية عن تاريخٍ لا يمكننا اللعب بسطوره لكن عِيثَ فيه فناً وأداءً فجاء العمل مشوشاً ضعيفاً، خصوصاً إذا ما علمنا أن نَص المسلسل كُتب على عجلة في ثلاثة أشهر أو أربعة وحصلت خلافات كثيرة حتى تم تحديد اسم كاتب النص، كما تم تصوير العمل فور الانتهاء من الكتابة، فلم تسنح الفرصة ربما لتدقيقه تاريخياً وحتى لغوياً، ولم نسمع كلمات جزلة أو قوية كان يتسم بها العرب آنذاك، بل كان الحوار أقرب إلى المحكي بعيداً عن التعمق باللغة العربية الفصيحة.
الشيء الوحيد الذي نجح في العمل هو الأغاني والرقصات الاستعراضية والصوت الجميل لنيرمين شوقي ساحرة المقلتين والصوت الأخاذ والتي تأخذك نحو عالم آخر بكل رقة و لطف مع أغنية “يا ساحر المقلتين” التي أداها أيضاً عادل جراح بصوته الهادئ المميز ذي البحّة البسيطة الشجية ،وميرنا ملوحي بأغنية “حي المنازل” التي استطاعت أن تحيي شعر جرير من جديد بصوتها الراقي المثقف، كل ذلك مع موسيقى الموسيقار رضوان نصري التي أسرتنا في المسلسل بعدة مشاهد غنائية فكان نصري على عهدنا به دوماً في عبقريته بتقديم الموسيقى بلون جديد ومختلف وهو الشعر  الغنائي الفصيح.


على ضفة أخرى نجحت مؤسسة أبو ظبي للإنتاج الإعلامي في تقديم عمل تاريخي مميز عن سيرة حياة القائد المهلب بن أبي صفرة، العمل الذي كتبه الدكتور الأردني محمد البطوش وأيضاً أخرجه الأردني محمد لطفي والذي تم تصويره في سوريا بدأ بسيرة المهلب مذ كان طفلاً حتى وفاته، قُدِّمَت قصة المهلب وأسرته بشكل تاريخي حقيقي يتضح من خلاله أن الكاتب استند إلى عدة مراجع ليحصل على مبتغاه، فظهر لنا على الشاشة عملاً قيماً يحكى بأمره، فعدا عن القصص الدرامية والرومانسية اللطيفة جداً والتي أسرت المشاهد بتفاصيلها الغريبة بين رباب وأبي المهلب و زوجته وبين المهلب و ميمونة، كان الإسقاط التاريخي على الواقع مهماً جداً، حيث دخل المسلسل في سرد تاريخ الخوارج الذين نكلوا بأهل العراق، وحالياً يكرر الخوارج أنفسهم باسم جديد و هم “الدواعش”، فنقل العمل تفاصيلاً حصلت ببداية العصر الأموي تتشابه مع عصرنا حالياً، فكانت حقبة مشبعة بالقتل والدمار والتنكيل بسبب الجشع والرغبة بالاستيلاء على كرسي الخلافة والصراعات الكبيرة التي حدثت بداية عهد معاوية بن أبي سفيان بينه و بين عبد الله بن الزبير بعد تنازل حفيد الرسول الحسين بن علي بن أبي طالب عن الخلافة.


إنما يعيب على النص في بعض مشاهده أنه تطرق بشكل شبه مباشر للأزمة الخليجية الراهنة بين دول الخليج وقطر، ومن الجلي أن الإمارات أرادت إرسال رسائل سرية علنية معاً لدولة قطر وللعالم العربي من خلال هذا المسلسل، فرئيس الخوارج مثلاً كان اسمه “قطري بن الفجاءة” الشاعر القطري المعروف الذي أجَّجَ نيراناً بينه وبين صديق طفولته المهلب بن أبي صفرة والذي يعود أصله لمنطقة “دبا” العُمانية أي أنه خليجي وهو من قبيلة أزد العربية المعروفة، وقد كان المهلب يعمد على إطفاء نار فتنة قطري وجماعته، وينصحه بالعودة عن أفعاله الشائنة باللين والرشد والنصيحة، ويتجنب قتاله في ساحات الوغى حرصاً على الطفولة المشتركة والصداقة القديمة والعهود، في إشارة للحفاظ على الصداقة الخليجية القطرية حتى آخر رمق، إنما ينتهي المسلسل في مشهده الأخير بقتل المهلب لقطري في رسالة واضحة لقطر أن الخليج على حق و مصير “الإرهاب” القطري إلى زوال، فرغم أن الكاتب لم يَنحُ عن التاريخ الحقيقي الذي حدث فعلاً في تلك الحقبة إنما جاءت قصة المهلب مناسبة للأحداث الحالية والأزمات الراهنة ولا نستطيع القول إلا أنه تم إسقاطها بمنتهى الذكاء، وهذا يفسر اختيار الإمارات لإنتاج مسلسل يروي سيرة حياة هذا القائد التاريخي بالذات.


كما أن المسلسل لم يخلُ من التنظير الديني، فالحوار في كثير من الأماكن حاول تسليط الضوء على فكرة “الدين لله فقط” والإنسانية هي الأهم، إلا أن الطريقة في الطرح جاءت ساذجة وطفولية ببعض المشاهد ووجّهت الفكرة بشكل مباشر دون مواربة أو ترميز.
القصص الرومانسية أضفت على النص شيئاً من السحر، فقصة حب الجارية رباب لأبي المهلب “ظالم بن سراق” كانت من أمتع المحاور في العمل، واعتمدت على مشاهد حماسية بين أم المهلب ورباب في صراعهما على رجل واحد ليتكرر هذا الصراع بين ابنة رباب “ميمونة” وصديقتها التي تزوجت المهلب “خيرة”، فأوصلت هذه الصراعات الغرامية المفتوحة رسالةً راقية مفادها أن الحب جميلٌ في أوانه ويفقد لذته عند تأجيل التعبير عنه إلى حين، فقدم رسالة إنسانية مضمونها هادف وعميق.
وقد احتوى النص على تعابير وشعر وكلماتٍ فصيحة، متقنة الصنع، متينة السبك، فجاءت متناغمة مع روح العصر، والصحراء العربية والمدن العراقية والخليجية.


أما عن الأداء فشهدنا نجومية ملحوظة لدى الفنان الشاب معتصم النهار الذي أدى دور المهلب بإقناع وسحر، في شبابه وشيخوخته، فخطف الأبصار بأسلوبه وكلماته ولكنته الفصيحة ومخارج حروفه، مما ينبئ بنجومية لهذا الشاب الجميل الذي انتظر طويلاً فرصةً مثل هذه ليثبت نفسه أكثر فأكثر، واستطاع ذلك فعلاً، أما عن ديمة قندلفت بدور رباب فكانت آسرة ساحرة ذات شخصية صلبة رقيقة، عبّرت بكل جوارحها عن مكنونات هذه الشخصية التي عادت لحبها الضائع بعد سنين وقررت أن تموت معه، فسرقت رباب الألباب بتفاصيلها وحكايتها وكأنها قادمة من قصص ألف ليلة وليلة، أما خالد القيش فقد أضاف لرصيده شخصية ملفتة قدمها بعناية وهي شخصية أبو المهلب حيث أداها بطريقة محببة منذ صباها حتى الشيخوخة، وأتقنت “روبين عيسى” دورها دون خوف من أن تلعب دوراً يكبر عمرها بسنوات فكانت صاحبة أداء أخاذ، في في حين فاجأنا وجهٌ شاب جديد وهي “لين غرة” التي قامت بشخصية ميمونة بأداء أكثر من رائع، هذه الشابة السورية والتي تخرجت من المعهد العالي للفنون المسرحية بدمشق مؤخراً قدمت دورها الأول على الشاشة بكل براعة وكأنها مخضرمةَ تمثيل لا يستعصي عليها شيء فنجحت مستخدمةً أدواتها الخاصة ورسمت طريق نجاح متميز لممثلة قادمة بقوة تحجز مكاناً لها مع نجوم الصف الأول.

عدا عن ذلك قُدِّمت موسيقى العمل بأسلوب هادئ مليء بنغم شجي،تتناسب مع المشاهد الرومانسية وحتى القتالية، فلم تكن الموسيقى عالية على أُذُن المتلقي، بل تفاعل معها بكل إيجابية، كذلك شاهدنا الإكسسورات والأزياء تتلاءم مع الشخصيات بكل تفاصيلها.


بين هارون والمهلب لا بد للمشاهد أن يقارن باعتبار أن هناك عملين تاريخيين كانا معاً في ذات الموسم، وسيلاحظ المشاهد حتماً التفاوت في الجودة بين المسلسلين، فكان نصلُ سيف المهلب أقوى من هارون وانتصر بصناعته الأصيلة، فمع الضخ الإعلامي الكبير وعرض الرشيد على قنوات عدة إلا أنه لم يلقَ أثراً بارزاً رغم تواجد العديد من النجوم العرب فيه، فالنوعية إذن تكمن في حرفية المسلسل بمختلف عناصره لا بإعلانٍ مكثف أو بنجومية مفرطة، فللسيوف التاريخية الدرامية كلمةُ فصل و صليلٌ لا يرحمُ صُنّاعه إن أخطأوا الهدف.