الدراما السورية.. حلوة لو تشبهنا

تفاصيل صغيرة تعلق في الذاكرة، تمرّ الأيام بعدها ويتقاطع ما شاهدنه على الشاشة مع أحداث تباغتنا. نستذكر تلك الدمعة في عينها أو الابتسامة في وجهه حتى يكاد يصعب علينا الفصل بين الدراما التي نشاهدها من التي نعيشها.

وفي أرشيف الدراما السورية حكايات أثيرة في ذهن المشاهد السوري، تشكل ما يمكن اعتباره الذاكرة التلفزيونية للسوريين. حيث استطاعت الدراما النفاذ إلى حيواتهم بفعلها الأقوى مستمدة نفوذها من الموروث الشعبي وحكايات الناس في الشوارع. وهذا ما حدث فعلاً حين بدأت الدراما السورية في خط طريقها المستقل عبر مسلسلات كصح النوم وحمام الهنا ومقالب غوار ووادي المسك، ضمن قالب النماذج الشعبية التقليدية “المختار/ بائع الخضرة/ العونطجي/ رئيس الكراكون وغيرها”. القيمة المضافة التي قدمتها الدراما السورية أنها انطلقت من الواقع الملاصق للحياة فكان لا بد لها أن تظل محافظة على ذلك القرب وألا تبحر بعيداً في الحكائية نحو الخيال والافتراض، وإن كان ذلك ضرورياً لصناعة المتعة في بعض الأحيان ولكنه سيأتي على حساب الواقعية.

إلا أنها – أي الدراما- تمسكت بالصدق فلم تخرج من نطاق التصوير داخل المنازل المسكونة فعلاً، لم تصنع ديكورات خاصة لبيوت رسمها المخرج على الورق. بل بنت لحمتها الخاصة من تجسيد الأحداث في حارات وشوارع وساحات أثيرة لدى السوريين، حتى لو جاء ذلك بفعل الظروف اللوجستية للدراما السورية التي فشلت في امتلاك مدينة إنتاج إعلامي خلال خمسة عقود على انطلاقها. وبذلك حدث استثمار فعلي للبيئة بما تحتويه من إرث مكاني هائل، فقدمت عشرات الأعمال الدرامية في باحات البيوت الدمشقية وسار أجيال خلف أجيال من النجوم في طرقات القيمرية وباب توما وباب الحديد لتروي حكايات الهوى والصراع الاجتماعي والسياسي في دمشق وحلب ضمن عصور متعددة ومراحل زمنية مختلفة. فضلاً عن التصوير في القلاع والحصون لأهم السير التاريخية.

ومع دخول العالم ألفيته الثالثة، كانت الدراما السورية تشكل رؤية خاصة بها في حكاية الواقع السوري من منظور ينسجم مع ما قدمته سابقاً ولكن بأساليب تصوير جديدة ووجوه شابة ستصبح في مصافي النجوم بعد سنوات. وهنا كان التوسع الإقليمي في عكس صورة المجتمع السوري بكل ما يحمله من ألفة وعلاقات رشيقة، فلم تجنح الدراما إلى التشبع بالألم عبر تجسيد العنف وتكثيف الصراع الدموي، بل عبرت عن حال الشارع مستعرضة مشاكله من القاع حتى السطح، داخلة إلى المخيمات والعشوائيات، متحدثة عن هموم الفقراء وأحلامهم، مشاكل الطلاب وهواجسهم، واستحالة الطبقة الوسطى في الحفاظ على استقرارها في ظل المعاناة المتزايدة عاماً بعد عام.

يقال أن هذه الدراما أربكت بعض الدول العربية في النموذج الذي قدمته الدراما السورية فكان لا بدّ من تفريغ هذه الأعمال من محتواها الفكري والتحول تدريجياً نحو الدراما الاستهلاكية القائمة على إثارة الغرائز والتحريض والعبث بعقول المشاهدين. قاوم الفنانين السوريون وصمدت النصوص، لكن الواقع فرض نفسه في تبعثر ملامح الصناعة الوطنية وتشتت كوادرها، فغاب النص السوري الصافي وتضاءلت معه إمكانية صناعة مسلسلات تقترب من الحقيقة لأسباب عديدة: بعضها يقوم على محاذير الرقابة في ملامسة الخطوط الحمراء وبعضها الآخر يقوم على منطق ليست هذه الدراما التي تشتريها القنوات العربية.

وبعد أن تدخل المال بقوة في صناعة الدراما، طفى على السطح فئة من منتجين عديمي الرؤية الفنية، ممن لا يمتلكون فكرة المشروع الفني أو الخطة المستدامة لتطوير أعمالهم والارتقاء بالذائقة الفنية للمشاهدين. كثر التسطيح وانقلبت الدراما إلى استعراض جسدي مهين بحق التاريخ العريق للمسلسل السوري والمسيء لعين المشاهد وأصالته. هذا ما دفع الكثير من صنّاع الدراما ولا سيما أصحاب المشاريع الفكرية إلى المطالبة بتفنيد الصالح من الطالح والتمسك بتقديم منتج درامي محترم يحقق أمنية كل مشاهد شغوف بالدراما السورية، يفتح التلفاز في أول يوم من رمضان، يلهث لمعرفة مواعيد المسلسلات، يدونها بشغف وبعد ماراتون البحث عن المتعة الحقيقية يضع رأسه على الوسادة هامساً في خياله: حلوة لو تشبهنا