الكوميديا السورية تنتحب

يزيح نظره عن الواقع المر، فيجد المشاهد السوري نفسه أمام كومة أخبار تلفزيونية تكرر نفسها يوماً بعد يوم لكن بصيغة مختلفة وبأرقام شهداء مرتفعة فقط لا أكثر، فلا يجد له مُتنفّساً لكل هذه الضغوطات اليومية المزعجة نفسياً واجتماعياً والتي تبثها الشاشة إلا مشاهداً كوميدية من مسرحية مصرية أو مسلسل سوري قديم ليستعيد معهم الذكريات الحلوة والبسمة والضحكات المسروقة منه منذ سنوات، لكن لماذا لا يعتمد المشاهد على الأعمال الكوميدية الجديدة؟ هل نضبت جِرار عسلها الممتعة وأفكارها التي تجبرك على الضحك؟
إذا تابعنا الأعمال الكوميدية منذ ما يقارب عشر سنوات فما بعد، قد لن نجد تجربة كوميدية متميزة يُجمع الجمهور على روعتها إلا فيما نَدَر، وفي المقال التالي سنستعرض محطات من الكوميديا السورية في عقدها الأخير:


بقعة ضوء: تاريخ ولكن!!

رغم أن بقعة ضوء مستمرة حتى الآن بعدة أجزاء إلا أن بعض لوحاتها باتت باهتة دون أن تثير الضحك، كما أن اللوحات المتميزة منها معدودةٌ، ويتم تداولها على صفحات مواقع التواصل الاجتماعي لأنها صارت من نوادر بقعة ضوء، بعكس أجزائه الأولى التي تحتوي كامل حلقاته على لوحات مميزة رائعة مازالت حواراتها محفورةً بالأذهان حتى الآن. هذا فضلاً عن تناوب عدد كبير من المخرجين وحدوث خلافات إنتاجية أدت إلى ابتعاد العمل عن ملمحه الأساسي واتكائه على نصص مكرورة وغير ناضحة في السبك. ولم يتبين حتى الآن قرار إنتاج الجزء الرابع عشر من السلسلة لموسم رمضان 2018


شربتجي: جيل الرواد

لعل هشام شربتجي أكثر مَن جسّدَ روح الكوميديا السورية إخراجياً وقدّمَ رصيداً وافراً من الأعمال التي مازال الجمهور يتابعها أكثر من مئة مرة دون كلل، وأضفى عليها لمسات مجنونة جعلت الجميع يتفاعل معها، فمَن منا لا يذكر عائلات النجوم “5 و 6 و 7 و 8 نجوم”؟
ومن منا لم يضحك على مواقف “جميل وهناء” وتثيره البسمة في مسلسل “صراع الزمن” ويعتريه الضحك من “يوميات مدير عام” و “بطل من هذا الزمان”؟
هذه الأعمال التي قدّمها شربتجي مع ممدوح حمادة وزياد الريس مازالت منارةً لأي كاتب أو مخرج يحاول دخول أصعب مجال في التأليف والإخراج ألا وهو فن الإضحاك، فمن السهل إبكاء المشاهد لكن من الصعب جداً أن ترسم ضحكة حقيقية على وجهه.


ياسر العظمة: الاستثناء


الأسطورة ياسر العظمة في مراياه الخالدة في خَلَد كل مشاهد سوري وعربي، حيث رافقتنا المرايا في كل هموم حياتنا ومشاكلها و قدمت لنا أنفسنا بطريقة كوميدية راقية ممتعة لا يمكن نسيانها وعلى مدى عقود منذ عام 1982 إلى أن بدأت بالاختفاء شيئاً فشيئاً منذ بداية الحرب لتتوقف عند مرايا 2013 التجربة الأخيرة الخجولة للسلسلة الأشهر. ياسر الذي ابتعد بدوره عن الوقوع في تبعات طرح الكوميديا خلال الحرب حاول تقديم نسخة من مرايا عام 2013 صورت في الجزائر لكنها لم تستطع الوصول إلى الجمهور بالشكل المطلوب. وكأن ياسر يقول في سره أن مرايا تزامنت مع مرحلة الجمر ولا تستطيع مقاربة فترة استعارة النيران، لربما تجد مكاناً لها حين تسكت المدافع ويبقى الرماد.


أوسو: كاسر القالب

وفي ثلاثية محمد أوسو النابعة من عمق الألم وشظف العيش ارتسمت ضحكة على وجوه السوريين جمعتهم أيام الألفة، حيث استطاع الكاتب الشاب أن يبصم على جدار الكوميديا بصمة لا تُمحى من خلال “بكرا أحلى”، “كسر الخواطر”، “كثير من الحب.. كثير من العنف” فبقيت هذه الأعمال حتى الآن متداولة على وسائل التواصل الاجتماعي وبين الناس ورسمت طريق النجومية لهذا الشاب الذي مازال الكثيرون يطالبونه بالعودة للتمثيل والتأليف بعد أن لامست أعماله مشاعر الجميع رغم سوداوية واقعها لأنها كانت نابعةً من صميم المجتمع السوري.


ممدوح حمادة: البيئة والرمز

سنجد في كتابات الدكتور ممدوح حمادة الآن ومسبقاً أيضاً أملاً في إحياء الكوميديا بين الفينة والأخرى، فلعله الكاتب الوحيد المواظب على هذا النوع
والذي يعطي أعماله حقها فتحقق نجاحاً وتكسب القلوب وتطغى على غيرها وفي السنوات الأخيرة لم نجد غير أعماله تكتسح الساحة الكوميدية وذلك من خلال “ضيعة ضايعة” ، “الخربة”، و “ضبوا الشناتي” التي تسرد واقعاً مأساوياً منطلقاً من عدة بيئات سورية أو شخصيات متعددة الأطياف. وذلك عبر ضحكةٍ لطيفة تضحك معها من القلب، فالخبرة الطويلة للمؤلف حمادة أعطته قلماً قادراً على الدخول في لب لواعج أفراد المجتمع السوري أيامَ سلمه وحربه لتحقق أغلب مسلسلاته رصيد محبة عالٍ في أفئدة الجميع فتكسر كل النمطية ولاتنقسم عليها الآراء، ونجد أن الغالبية العظمى مُجمِعةٌ على الإتقان الموجود في هذه المسلسلات من جميع النواحي، على أمل أن يحقق “الواق واق” الذي قد يُعرض في رمضان 2018 النجاح ذاته ويرسم البسمة الحقيقية على الوجوه.


واقع غير مبشر بضحكة

بالنظر لواقع الكوميديا السورية حالياً نجد ضعفاً في ابتكار أفكار جديدة فضلاً عن الأداء التمثيلي غير المتقَن بالإضافة لإصدار أعمال ترتكز على نجاح سابق كمسلسل يوميات مدير عام الذي عاد بعد 15 عاماً إلا أنه لم يحقق ذلك الصدى المرجو، أما “دنيا” التي دخلت قلوب الجميع عام 1999 عادت في 2015 بجزء جديد بعد طول غياب أيضاً بالاعتماد على النجاح الباهر للجزء الأول، ورغم نجاح الجزء الثاني و تحقيقه نسبة مشاهدات عالية إلا أنه وقع في بعض الأخطاء ونالت منه أظافر الحرب فلم يكن بسيطاً
وانقسم الناس حوله بينما أجمعوا على روعة سابقه.


أحدث ما يسمى “تجارب”

وقد طالعتنا في رمضان 2017 أيضاً تجربة مسلسل “أزمة عائلية” التي أعادت شيخ الكار الشربتجي إلى مضمار الإخراج ورغم انقسام الناس على العمل بين معجَب وغير معجَب به، إلا أن المسلسل لم يكن فجاً مصطنعاً فقد تمتع بروح حقيقية في الشخصيات وعدم المبالغة في التبرج والأزياء، ورغم ضعف النص أعادنا المسلسل نوعاً ما للأعمال ذات المشاهد الداخلية فقط والتي من الصعب إدارتها نصاً وإخراجاً بسبب صعوبة الحركة خارج “لوكيشن” واحد وحقق “أزمة عائلية’ مشاهدات عالية واستحساناً لدى الكثيرين.


المقابل هذر!!

لكن تبقى الكوميديا السورية في حالةٍ سيئة وهي عطشى لجديدٍ يهزها، فالأعمال الكوميدية مؤخراً قد أصبحت غالباً تعتمد على المبالغة من أجل الضحك سواء في الكلمات أو الأزياء أو الدلع من بطلات العمل الذي لا مبرر له كما حصل في مسلسلي “سنة أولى زواج” و “نيولوك” و “جيران” و غيرهم الكثير، ومع ذلك “يظن” القائمون عليها أنها نجحت ويحاولون إنتاج جزء ثانٍ وثالثٍ متناسين أنه في زمن غابر كانت الدراما السورية تغص بأعمال كوميدية “هادفة” رائعة، وأنها رغم قلتها فقد حققت نجاحاً وشهرةً لأكثر من عشرين عاماً سلفاً، ليصبح الاهتمام الآن بالكَمّ لا بالنوع وبالمظهر لا بالمضمون وبالإضحاك لا بالهدف.


حَرِيٌّ بعد كل هذه الدموع والدماء أن يستحق المشاهد السوري نصوصاً مشبعة بروح كوميدية حقيقية لعلها تُسليه عن واقعه المنهَك بالصواريخ والموت لوقتٍ قصيرٍ ربما وتكون حلاً مؤقتاً للهروب من الواقع، رغم أن هذي الحرب الطاحنة لا تشفي جراحها ضحكة حتى لو عاد الماغوط ودقّ كاس الوطن من جديد على خشبة الآلام.