السامية في الدراما.. السيدة في الكوميديا

في 25 نوفمبر 1946 لم يعرف السيد محمد سعيد الجزائري أن ابنته الكبرى سامية التي أنجبها في هذا اليوم ستخطّ طريقاً نحو عالم الشهرة والمجد والفن الراقي.
نشأت تلك الفتاة في عائلة بسيطة في إحدى الحارات الدمشقية العتيقة التي تنضح سحراً وجمالاً فرشفت هذه الصبية من ذاك الرونق العتيق بريقاً شامياً مازال يتجلى في ألفاظها و مصطلحاتها.
لم تكن المخرجة “قسمت طوزان” مخطئة البتة حينما أدخلتها عالم التمثيل مصادفةً لتجعل حياتنا ممتعةً يتخللها ضحكة نقية أرسلتها لنا تعابير وجه سامية التي بدأت
تشقّ طريقها من خلال تمثيلية أبو البنات عام 1963 العمل الذي كانت مدة الحلقة الواحدة منه ربع ساعة فقط ليتحول بعد سنوات لمسلسل طويل، و قد لعبت فيه دور الممرضة، ثم انتقلت الجزائري لحمام الهنا عام 1968 مع الثلاثة الكبار دريد لحام و الراحلَين نهاد قلعي و رفيق سبيعي لتدخل بقوة مع نجوم أعطوا كل وقتهم وتعبهم لإنشاء دراما سورية قادرة على إثبات وجودها في زمنٍ كانت فيه هذه الصناعة ضعيفةً نوعاً ما ومُستهجَنةً شعبياً لتكون من المؤسِّسين لحركة درامية نوعية دامت عقوداً.
ومن هُنا تتالت أعمالها لتصبح نجمةً في غضون سنين قليلة مصطحبةً معها أختها الصغرى النجمة صباح الجزائري لتصعدا سلم النجومية معاً، فليس أجمل من أن تمسك يد أختها في دربٍ طويل صعب لتتعكزا على بعضيهما سويةً.


وجاء “صح النوم” 1972 العمل الذي جمع الشعب السوري حول التلفاز الجديد ، هذه الموضة التي بدأت تجتاح البيوت السورية عام 1960 فأجمعوا على روعة المسلسل الذي مازال حتى الآن يُتابَع و يُكَرَّر لتكون سامية جزءاً منه في المسلسل و الفيلم أيضاً الذي أُنتِجَ لاحقاً بالألوان.
لم تكن تحلم هذه الشابة الجميلة في أن تصبح سيدةً للكوميديا فقط، فلطالما أحبّت أن تكون عرّابةً في الدراما بكافة أنواعها وكان لها ذلك، فرغم صعودها بالأعمال الكوميدية منذ بدايتها إلا أنها برعت في الأدوار الأخرى التي تحتاج إلى تركيز درامي عالٍ وأداء مؤثر أبرزها كان عندما تقمصت شخصية “الحجة” في المسرحية الوحيدة التي قدمتها “غربة” مع الكبير دريد لحام ونهاد قلعي وأختها صباح الجزائري، فالشخصية التي كانت ترمز للخير والحب والحكمة لعبت فيها دور امرأة في السبعين وهي لم تزل في الثلاثينات بكل براعة وإتقان حتى في مشيتها وحركاتها، تبعها تجربة مشابهة في شخصية الجدة بمسلسل “تجارب عائلية” مع المخرج “علاء الدين كوكش” ثم دور سيدة متزوجة تخوض مشاكل عائلية صعبة في مسلسل “حصاد السنين”، و طبعاً التجربة الأهم كانت في مسلسل “كان ياما كان” الجزء الأول الذي بصم على قلوبنا أروع الذكريات بصوتها، فهي الجدة التي تقص أجمل الحكايا علينا وعلى أحفادها بخامةٍ صوتيةٍ هادئة قريبة من القلب أحيت مشاعرنا وأخذتنا إلى عالم من الخيال فصرنا نتساءل بسببها فعلاً “هل حدثت هذي الأحدوثة حقاً في تلك الأيام؟ والشخصيات المكتوبة هل عاشت أم كانت أوهام؟”. 

ولربما وجد المخرجون وقتها أن هذه السيدة أكبر من أن تكون شابة مراهقة أو فتاة متصنعة فهي رزينة صارمة و جدّيّة في عملها، توصل الفكرة بأسلوب راقٍ ممتع محترم ومريح للعين والأذن والفؤاد، لكن حتماً عند الكوميديا سوف تجعلك تغشى من الضحك.


دخلت أيضاً سامية الجزائري دراما البيئة الشامية بدايةً من شخصية “أم عبدو” التي تعاني الأمرَّين من ضرّتها “نزيهة” التي توقعها في مشاكل كبيرة مع زوجها وتفرّق بينهما وتبقى مع ذلك طيبة القلب نقية السريرة لتصبح بعد “أيام شامية” من الوجوه الأساسية في الدراما الشامية فكانت في بطولة عدة مسلسلات مهمة مثل “ليالي الصالحية” مع “بسام الملا” و “أهل الراية” بجزأيه و “الحوت”، فكونها بنت الشام القديمة أعطت جزءاً من روحها لهذه الأدوار الخالدة.
كبُرَت هذي الأيقونة وشاب شعرها وارتسمت التجاعيد على وجهها لكن روحها لم تشب يوماً، فهي “أم محمود” المرأة المتصابية التي تبحث عن الرجال وتغازل جارها “جميل الحمصي” وتصنع المقالب والنكات والضحكات مع جارتها “هناء”، فدور الجارة الحشّورة قد لاق بها تماماً في هذا العمل الذي لا يُمحى جزآهُ من ذاكرة الناس فكررت هذا الكاريكتر في نفس السنة بالعمل الكوميدي “2×2” لكن بطريقة ألطف من أم محمود وأقل حشريةً.
ورغم التصابي في بعض مشاهدها الكوميدية لم تؤذِ سامية يوماً عين المُشاهد ولم تكن مصطنعة بل أمتعتنا بكل لحظة، وكررنا معها ألفاظها و أدعيتها الشامية القحّ التي أعطتها طابعاً خاصاً بها وحدها، و لعل سلسلة النجوم مع الشربتجي تشهد على ذلك، حيث ضحكنا معها من القلب بكل عفوية وبدون أي تصنع بدايةً من عيلة خمس نجوم لتستلم بعدها هرم هذه السلسلة المضحكة الهادفة التي لا تتكرر ، فمن أم أحمد بلاليش إلى مدام فردوس ثم عفراء البرعط فَبوران خانم السيدة البخيلة المتحكّمة بأفراد العائلة.

كانت الجزائري عنصراً أساسياً و مهماً من نجاح مرايا مع الأسطورة ياسر العظمة منذ بداية هذه السلسلة الشهيرة لتشارك في بعض أجزائها كمرايا 82، 84، 97، و 99 فقامت بأداء عدة شخصيات بكل حرفية وإبداع.
التعدد الذي قامت به مع عدة مخرجين و كُتّاب تحديداً في الكوميديا أكسبَ هذه السيدة العريقة خبرةً في الفن الأصعب على الإطلاق وهو “فن الإضحاك” الذي كان سهلاً بالنسبة لها تبعاً لعفويتها في الأداء وأدواتها المستخدمة في التمثيل مما حَدا بالكتّاب والمخرجين أن يصنعوا أعمالاً خصيصاً لها فكان “مدام دبليو” ، “شو حكينا”، “فتنة زمانها” والمسلسل اللبناني “زفة”.
أيضاً لعبت سامية دور الأم الحنون التي تنهكها هذه المهمة في “دامسكو” و “شتاء ساخن”، فهي الباحثة عن رضا أولادها وسعادتهم وتتعسُ حين تعتريهم المشاكل لتؤدي هذه الأدوار بكل تأثّر وعطف.
لدى نجمتنا القديرة أدوار عظيمة في شتى المجالات ففي السينما شاركت في “صح النوم”، “سمك بلا حسك” ، “رحلة حب” ،”مقلب حب”، “زواج على الطريقة المحلية” ، “كفرون” وغيرهم، وكانت أغلب هذه الأفلام مع نجوم سوريين كبار كدريد لحام ،منى واصف، نهاد قلعي، رفيق سبيعي، ناجي جبر، ياسين بقوش.
وفي الإذاعة السورية أيضاً لم يغب صوت الجزائري عن مسامعنا فكان لها مشاركات في مسلسلات إذاعية أهمها “يا لطيف شو شوب”، “أنا و زوجتي و المشاكل” مع الراحل “سليم كلاس”، و “أفكات خانم تحييكم من استديو 26”.


ولكن رغم هذه النجاحات و صمودها أمام الكاميرا لسنين طويلة ترفض الجزائري المقابلات التلفزيونية والإذاعية وتبتعد كل البعد عن وسائل التواصل الاجتماعي ولا يستهويها الظهور الإعلامي، ربما خوفاً من التملق أو المجاملات ، فمن الواضح أنه عمل لا تجيده، لذا آثرت أن تبقى قريبةً من الناس بأدوارها و شخصياتها المحببة وحاولت الحفاظ على صورة معينة في الأذهان، فحتى في التكريمات والمهرجانات لا نجد لسامية أثراً رغم تكريمها لعدة مرات منذ عام 1967 عندما كرمتها الإذاعة السورية كأفضل ممثلة صاعدة وأيضاً كرمتها عن دورها في مسرحية غربة عام 1984، و عن دورَيها في مسلسلَي عيلة 6 نجوم و 7 نجوم نالت تكريمين متتاليَين في مهرجان التلفزيون السوري ومن ثم كرمتها الهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون عام 2008 عن مجمل أعمالها.
أما عربياً كرّمتها مصر عام 1990 عن دورها في فيلم كفرون وفي تونس مرتين عام 97 عن دورها في مسلسل جميل وهناء و عام 2004 عن مسلسل ليالي الصالحية أما في الإمارات فتم تكريمها عام 2008 عن دورها في مسلسل “الحوت” ولم تحضر هذه التكريمات شخصياً وابتعدت عن كل البهرجة والأضواء باستثناء شغفها لإضاءة الكاميرا.

عندما ننظر لهذا التاريخ الفني الحافل غير المشوب بأي خدش سنجد أمامنا امرأة من عصر الفن الجميل، كبلورةٍ كريستالية لا تتزحزح ولا يخبو نورها بل تبقى مضيئةً على مدار السنين ومن ضيائها تنتعش الدراما السورية ويتعلم الجيل الجديد فتكون لهم أماً سامية بحقّ، هي التي حُرِمَت من الأمومة ولم يثمر رَحِمها عن أطفال ولم يقربها زوجٌ سوى الفن فكانت هي الرَّحِمُ ذاته الذي أنجبَ أعمالاً خالدةً في أذهان الجميع وفي أرشيف التلفزيون السوري لتصير بكل أمانة سيدةً سوريةً تتربع على عرش الدراما و تتملك قصوراً من الكوميديا.