“المهاجران” من المسرح إلى السينما.. شريط سينمائي يقبع وراء الشمس

أحمد سلمان – طرطوس

 

فيلم ” المهاجران ” للمخرج محمد عبد العزيز تمثيل الفنانَين سامر عمران و محمد آل رشي هو رحلة نص مسرحي ابتدأ من بولونيا للكاتب المسرحي سلافومير مروجيك كُتِب في 1974، ثم التقط الممثل والدكتور سامر عمران نص المسرحية وعمل على ترجمته وإعداده ليقارب الواقع العربي والمنظومة الفكرية في الشرق ونفذه مسرحياً في دمشق كما تولى إخراجه أيضاً.
حيث اختار قبواً في منطقة القزازين ليعطي واقعيةً أكبر وتأثيراً عند المتلقي رغم أن القبو لم يكن يتسع لأكثر من خمسين متفرج. تلقت المسرحية أصداءً إيجابية وجماهيرية عالية في الوسط المسرحي فقدم البطلان في دمشق و ضمن المهرجانات الدولية أكثر من مائة عرض.
وصلت رحلة هذا النص إلى الفن السابع ليستلم المخرج السوري محمد عبد العزيز مهمة القيادة بلغته البصرية التى عرف عنها المغامرة في التجريب وتحقيق البصمة المطورة.
لم يرَ المخرج ممثلين أفضل من سامر عمران ومحمد آل رشي كمهاجرَين أبدعا في قبوهما ومسرحيتهما كي يزيد ” عبد العزيز” المقامرة البصرية ويتبع أسلوب الدوغما إلى حد ما في حضن مشاهده لإيمانه حسب رؤيته أن ذلك يحقق تلاؤماً أكثر لإيصال الفيلم للمتلقي بالشكل الفني الأقوى .

يحكي الفيلم قصة مهاجرين مختلفين في التفكير وأسلوب الحياة و الهدف ،وهذا ما يخلق فكرة التناقض المستفزة والهادفة حيث غُيِّبِ اسميهما وجنسيتيهما كإسقاط أعمق على أي جنسية عربية و على أي دولة.
فهناك المهاجر البسيط جداً الذي لا يريد أكثر من المال لتحقيق عيش كريم والعودة إلى البلد ولكن طمعه وبخله يؤخران تلك العودة، وهناك المهاجر المثقف الذي خرج من بلده بحثاً عن الحرية وهرباً من التضييق والبساطة الغبية. ولكن الفقر ينحدر به إلى قبو أكثر خنقاً و بلاد تضج بالحرية ليتماهى معها لدرجة الاختفاء وغياب الذات.

يختلق النص ذرائع كثيرة لتصعيد النقاش ورفعه إلى مناقشة أفكار و قوانين لا يمكن النقاش فيها إلا داخل حفرة تحت الأرض أو قبو ، فالمهاجران ليسا إلا أفكاراً تتصارع وثقافات تتناحر.
فالمهاجر المثقف يعيش حالة إحباط لشخصه ويشعر بالضعف في مكان لا يقدر على التكيف فيه ولا يجد منبراً لضخ أفكاره وعلومه، أما المهاجر الآخر فهو عامل اعتاد القسوة والعمل لساعات طويلة والعيش ببساطة القطيع والأحلام الوردية كما يصفه صديقه المهاجر فكانت الإضاءة طبيعية جداً وخافتة مثل خفوت السعادة في حياتيهما ومكتفية أحياناً بضوء الشمعة الذي ينتقل خلاله السرد والحوار إلى أقساه ألماً وجرأة.
اختيار القبو كمسرح للأحداث هو إشارة للأفكار المخنوقة والصراعات الداخلية بين الممكن واللاممكن، بين البوح والكتمان، بين الخوف والشجاعة. فهذا القبو هو عبارة عن حاضنة للعمق الإنساني ببساطته وغبائه وخوفه كما في ضعفه وذكائه وتمرده العاجز على الواقع المعاش.
اتخذ المخرج محمد عبد العزيز من الكاميرا المهتزة والمتوترة المحمولة على اليد أبجدية بصرية تنطق مع الممثلين، فكأن العين تستمع إلى مكنونات المهاجرَين ونقاشيهما المتهكمَين بحسب قناعة ورؤية كل منهما علاوة على اللقطات القريبة للوجهين لاقتفاء المباشرة في الحوار والتمهيد لتصعيد قادم.
كما تخلى المخرج عن الموسيقى التصويرية وارتأى الاعتماد بشكل كلي على أصوات طبيعية تصدر من الأشياء والأثاث واختار أصواتاً تساعد النص في الوصول للمتلقي. كالماء الذي يسقط قطراتٍ من الأنابيب السقفية فوق وعاء على الأرض ليصدر أصواتاً متقطعة تشير إلى تقطع الفكر وانعدام الراحة النفسية وإلى صوت المياه المتدفق من السيفونات للإشارة إلى معاناة المهاجرَين وسوداوية العيش مع الأوروبي الذي يعيش برفاهية في نفس المبنى الذي يشغلان أسفله.
كما برزت أصوات الجيران الأوروبيين التي تنبثق عبر الأنابيب وتدل على عزلة المهاجرَين وابتعادهما الإجباري عن مسير الحياة الطبيعية بجوار من يمارسون العيش بقمة ذروته.
كما يظهر انتقال الحوار بين المهاجرَين إلى المقارنة بينهما وتبدأ النقاشات بكشف الأسباب كتحصيل حاصل لما هما فيه وربط ذلك بالجذور والماضي، ثم ينفجر النقاش بينهما ليصل إلى ناحية القيود والاستعباد الذي يعيشان فيه؛ فالمثقف يرى العامل عبداً غبياً وملهماً له لكتابة بحثه، لكن هذا العبد يفك رباطه في لحظة غضب ويمزق المثقف أوراق كتابه كإشارة إلى فشله في تأكيد العبودية. كما يظهر المثقف كجلاد على المهاجر الآخر ولكنه جلادٌ لفكره وحباً لإنسانيته لأن الإنسان لا يجب أن يكون كلباً على حد قوله.
لتنتهي موسيقى الفيلم بطرقات فلسفية بالرأس للمثقف المنزوي على الجدار مع تلاوته بشكل أشبه بالهلوسة لأماني الأمل وتحقيق التطور والحضارة في البلاد .
لم ينسلخ الفيلم عن المسرح فهو القادم من مسرحية سبق وقدمها ثنائي الفيلم “سامر عمران ومحمد آل رشي” قبل عقد من الزمن في قبو تحت الأرض. ليوثق الفيلم المسرحية بصورة بصرية بل يحتوى الخشبة بتكنيك سينمائي ذكي وشفاف حيث أبدع ممثلاه في التوحد مع دورَيهما بمستوى راقٍ ومقنع و خالٍ من المبالغة.
الفيلم إنتاج شركة ” الشرق” عام 2011 و شارك في العديد من المهرجانات الدولية ،لم يُعرَضْ حتى الآن في قاعات السينما السورية لأسباب رقابية و إنما حصر عرضه في أماكن خاصة محلية كَبار في دمشق ، و مدرسة ALT للغات ، و قد تم رفع الفيلم على اليوتيوب ورابطه أسفل المقال.⁠⁠⁠⁠